في كتابه “الإنسان العاقل – موجز لتاريخ البشرية” يُبحر الكاتب يوفال نوح هراري، في تاريخ البشرية ثم يطرح تساؤله الجدلي، ما علاقة التاريخ بالسعادة، وهل هناك تأريخٌ للسعادة عند البشر؟
هل كان القروي في العصور الوسطى ذو الموارد المحدودة، والرفاهية البسيطة، والذي يعيش في مجتمع بدائي خالٍ من الحضارة والتكنولوجيا أكثر سعادةً من الإنسان المعاصر؟ وسواءً كانت الاجابة بنعم أم لا فما هو السبب، ما هو سر السعادة عند البشر؟
التجارب العلمية
يستعرض الكاتب في الفصل الأخير من كتابه، التجارب العلمية والبيولوجية، والدراسات الاجتماعية الإنسانية التي حاولت أن تجيب عن هذا السؤال الأكثر إلحاحاً في تاريخ البشرية، والذي أعتبره مؤسسو الدستور الأمريكي أحد الحقوق الأزلية والمبدئية للإنسان “السعي لتحقيق السعادة”.
قام علماء الاجتماع بعمل دراسات استقصائية لجمع المعلومات عن مدى رضى البشر وسعادتهم في ظروف مختلفة، وربط النتائج بالعوامل المسببة أو المساعدة على تحقيق السعادة والرضى، وكانت النتائج مدهشة.
فمن بين العوامل الأكثر شيوعاً لتحقيق السعادة، يبرز المالُ والصحة، ولكن اللافت أن السعادة المتأتية من المال والظواهر المادية لا تحقق السعادة على المدى البعيد، وغالباً ما تكون السعادة الناتجة عنها لفترات زمنية محدودة، سرعان ما تزول وتبهت وتفقد معناها وبريقها حين يتعود الإنسان عليها، وتصبح جزءاً من نظامه الحياتي.
وعلى النقيض من ذلك، إذا امتلك الإنسان الحد الأدنى من مقومات العيش ولم يعان من فقر مدقع يحرمه من أساسيات الحياة، فإن مرتبته على درجات سلم الثروة، لا يعد لها تأثيراً بالغاً على مقدار سعادته.
أما فيما يخص الصحة، فطالما أن المرض لا يسبب ألماً مزمناً، فإن الإنسان قادرٌ على التأقلم مع جميع الأمراض المزمنة بل واستكشاف قدرات كامنة فيه، تضيء له دروباً جديدة سرعان ما تعوضه عن أي نقص أو حرمان.
وبذلك يصح القول أن الفقر والغنى، والمرض والصحة ليسا من العوامل الرئيسية في معادلة السعادة!
البعد البيولوجي
ولكن النتائج الصادمة جاءت من الأبحاث العلمية، التي ركّزت على البعد البيولوجي القائم على تحفيز الهرمونات المسببة للسعادة. وقد وجد الباحثون أن هناك مسؤولية مباشرة للجينات في فرز وتحفيز الهرمونات المنشطة والباعثة على السعادة، وأن طبيعة البشر تختلف وراثياً في مدى استعدادهم للوصول إلى أقصى درجات السعادة، أو الركون لمشاعر التذمر والاحباط والاكتئاب.
وقد وجد العلماء، أن البشر يمتلكون صفات وسلوكيات مختلفة تؤثر على معدلات السعادة لديهم، وتحدد نطاقها بدرجات متفاوتة، بمعنى أن أحمد قد يمتلك صفات وراثية تجعل من معدلات السعادة لديه فوق المتوسط من 5 الى 7 على مقياس من واحد إلى عشرة، ولذا يكون أحمد قادراً على التمتع بدرجات سعادة معتدلة قد ترتفع إلى أقصاها إذا ما عاش لحظات سعادة (حسب تفضيلاته الشخصية والاجتماعية) ولكنها سرعان ما تعود إلى معدلاتها الطبيعية، وقد تنخفض أيضاً إلى معدلات متدنية، إذا عاش تجربة بائسة، ولكنه أيضاُ سيكون قادراً على إعادة التوازن، والعودة إلى معدلات السعادة الطبيعية لديه.
ولكن أحمد هذا، لن يستطيع الوصول إلى الحدود القصوى من السعادة وعيش تجربة الرقص في الشارع تحت المطر، وكذلك لن يصل به الأمر إلى حضيض التعاسة فينهار نفسياً وينسحب من هذه الحياة!
وعلى المنوال نفسه، سنجد أن خالد لديه موروث من الحمض النووي يحمل معدلات منخفضة من السعادة، وفي هذه الحالة فإن خالد سيعاني من المشاعر السلبية، وسينشر تلك الطاقة السلبية حوله، ولن تتعدى أقصى درجات سعادته 5 من عشرة، مهما تحقق له من أسباب السعادة!
اعتماداً على هذه النتائج العلمية والسلوكية، فإن مفهوم السعادة لدى البشر هو نسبي أولاً، وهو مفهوم فردي، لا يخضع للمنطق، ويعتمد بشكل مباشر على استعدادنا للشعور بالسعادة، ومدى قدرتنا “الجينية والنفسية” على إدارة مشاعرنا والتعامل معها.
ومن هذا الباب بالذات، انخرط البشر في إدمان مسببات السعادة، مثل المخدرات والحشيش والمنشطات وغيرها، لأن من شأنها كسر كل القيود والمحددات البيولوجية والنفسية، واضفاء الشعور “المزيف” بالسعادة.
السلام الداخلي
وقد وجد الباحثون أيضاً، أن البعد العاطفي والاجتماعي والسلام الداخلي يحتلان مرتبة أعلى بكثير من العوامل الخارجية والظروف المحيطة بالبشر فيما يخص بتحقيق السعادة، فكلما كان الإنسان محاطاً بالحب والرعاية وكان جزءاً من منظومة متكاملة يشعر بالانتماء لها وجودياُ وفكرياً وعاطفياً، كلما ارتفع معدل السعادة لديه. وكلما كان الإنسان مؤمناً بقضية ما، ولديه من الأخلاقيات والمبادئ التي يعيش من أجلها ويمضي حياته في تطبيقها ونشرها، كلما ارتفع معدل السعادة لديه وأصبح مرتبطاً بالانجازات الشخصية والجماعية.
ولعل هذا البعد في نظري هو أهم ما جاء في تلك الدراسات، لأنه يؤكد ما كتبتُ عنه في العديد من مقالاتي السابقة، ويؤكد أيضاً ما نقلته العديد من الكتب والمؤلفات عن تجارب شخصية ودراسات إنسانية.
ولعلي أنظرُ بأسى، إلى كل من يعتقد أن تحقيق السعادة مرهونٌ بالتسلية وتمضية الوقت في ممارسات “مرغوبة” وأنشطة قد تكون غريبة أو فريدة من نوعها، فمعظم شباب هذا الجيل، يقضون أوقاتهم في السهر واللعب والسفر وممارسة التحديات، بحثاُ عن سعادة آنية لحظية، متكررة تفقد مغزاها ومعناها مع الوقت، إنهم يفنون أعمارهم دون أن يدرون!
لقد بتنا مدمنين على ممارسات وطقوس يومية دون أن نشعر، فانقلبت الآية وبدلاً من أن نسخّرها لسعادتنا أصبحنا عبيداً لها، نمارسها كي لا نشعر بالضجر، ولكي نخرج من “المود”، بمعنى آخر كي نقتل الوقت ولا نشعر بعدم أهميتنا في هذه الحياة!
كم من البشر، يهلكون أنفسهم في العمل والوظيفة دون أي هدف آخر في الحياة، دون أي توازن عاطفي واجتماعي ولا حتى داخلي، وبعد أن يمضي قطار العمر، يتفاجأون بأن العمر قد مضى وأنهم نسوا أن يعيشوا الحياة!
إن البحث المُضني عن السعادة، دون إدراك مقومات السعادة الحقيقية هو الغرق في التعاسة ذاتها دون أن ندرك!
إن الايمان بالقيم والمبادئ الإنسانية، والترفع عن كل المغريات الآنية، والممارسات التي تجعل منا مدمنين عليها، وحمل رسالة نبيلة في هذه الحياة، ومحاولة نشرها وتحقيقها، هو السبيل الوحيد لتحقيق السعادة، والرضى النفسي والسلام الداخلي.
إن مقدار تحكمنا برغباتنا، وتوقعاتنا، وتقبلنا لواقعنا، وعدم مقارنة أنفسنا بغيرنا، والعيش ضمن مجموعة من المحبين والمتعاونين، هو السبب الحقيقي للسعادة البشرية، وفي ذلك يتساوى الفقير والغني، والعليل والموفور الصحة، والحاكم والمحكوم.
تكمن السعادة الحقيقية في وضع هدف واضح لحياتك يجعل لها قيمةً ويمنحك الشعور بالمعنى، حينها وحينها فقط، سترى السعادة من منظور مختلف، يتجاوز كل الصفات الوراثية، والعوامل المادية، والظروف المحيطة، ولعلّك حينها تدرك معنى الدين وغاية الخلق، بشكل مغاير، فالدين ليس مجموعة من التكاليف الجبريّة، ولا أوامر مجرّدة، بل هو عقيدة فكرية، وطريقة حياة.
يقول المفكر والمؤرخ الأمريكي كيفن كروز (تدور الحياة حول تحقيق التأثير وليس تحقيق الثروة)، ويقول بوذا (الشخص الذي لا يشتهي لا يمكن أن يعاني).
كاتب من الأردن