بالطبع وبعد أن أصبح فيروس كورونا، أو كوفيد 19 حقيقة حياتية، ينبغي أن يتعود الناس على تسكعها بينهم، وتدخلها في حياتهم اليومية، وحمل بعضهم قسرا إلى المستشفيات أو المقابر، بغض النظر عن كل حلم قد يكون رسم، وسكة، قد بدأت الخطوات فيها، كان لا بد من اختراع تقنيات تمكن الحياة من الاستمرار قليلا، حتى يعثر أحد على لقاح حقيقي، يعيد الأمور إلى نصابها، أو يمل الفيروس من وجوده المخجل في الدنيا، ويرحل من تلقاء نفسه، وهذا شيء حدث كثيرا من قبل، ويمكن أن يحدث هذه الأيام أيضا.
هكذا رسمت خطوط التباعد الاجتماعي، في العالم الواقعي، وانتشرت الكمامات لتغطية جهات التنفس في الوجه، وأصبح في يد كل حارس أمني، لأي مرفق نود الدخول إليه، جهاز لقياس الحرارة، وفي عينيه نظرة حادة تتعقب لون البرنامج الوقائي في الهواتف المحمولة، في البلاد، التي تستخدم هذا البرنامج.
أيضا عدل دوام المدارس، واعتمد التعليم عن بعد، باستخدام برامج مختلفة، أهمها برنامج زوم، ذلك البرنامج السحري، الذي يتيح الوجود شبه الفعلي لعدد كبير من الناس من أمكنة مختلفة، في الوقت نفسه، لمناقشة مسألة ما، أو الاستماع لمحاضرة يلقيها شخص، وهكذا.
وعلى الرغم من أن الثقافة، ليست أولوية كبرى لدى الدول، أو لدى الناس عامة، وهي في الغالب شأن يهتم به من ابتلي بعشق القراءة والكتابة، فلا أظن أن تلك البرامج المبتكرة كانت من أجلها، لكن لا بأس من الاستفادة من تلك البرامج في أن ينظم مؤتمر كبير يضم أشخاصا كثيرين، من دون أي تذاكر سفر، ولا حجوزات فنادق، ولا سائقين ومندوبين، ينتظرون في المطارات ساعات لاستقبال أحد، بلا «بوفيهات» غداء أو عشاء، ورحلات ترفيهية مكلفة داخل البلاد صاحبة الدعوة، وأيضا تنظيم مهرجانات الجوائز، ومنحها، ذلك الذي كان يحدث سنويا في دول تمنح جوائز، وتحتاج لجيش من المنظمين والسكرتارية، والربكة والضجيج، حتى تنتهي حفلات منح الجوائز.
عدل دوام المدارس، واعتمد التعليم عن بعد، باستخدام برامج مختلفة، أهمها برنامج زوم، ذلك البرنامج السحري، الذي يتيح الوجود شبه الفعلي لعدد كبير من الناس من أمكنة مختلفة، في الوقت نفسه، لمناقشة مسألة ما، أو الاستماع لمحاضرة يلقيها شخص، وهكذا.
في الحقيقة، لا بد أن نسعد بتلك الحلول المبتكرة، لأننا أيضا، وأسوة بغيرنا من الناشطين في المجالات الأخرى، سواء كانت علمية أو سياسية أو اقتصادية، استطعنا الحصول على هذا الامتياز، أي مواصلة ندواتنا ومهرجاناتنا بسهولة، رغم كابوس المرض وتحليقه، أكثر من ذلك ازدادت تلك الدعوات الافتراضية كثافة، ويمكن أن تشارك إن رغبت يوميا في ندوة هنا، ومحاضرة هناك، ومهرجان موسيقي، وأمسية شعرية هنا وهناك، أيضا يمكنك المشاركة بسهولة في برامج تلفزيونية، كانت المشاركة فيها في الماضي، تحتاج لما ذكرته عن السفر وحجوزات الفنادق، وتلك الامتيازات الأخرى المكلفة، وأذكر أنني دعيت مرارا في الماضي للمشاركة في برنامج تلفزيوني ثقافي في إحدى البلاد الأوروبية، حيث لا بد من تأشيرة شنغن، وسفر، والحصول أولا على إجازة من عملي لمواجهة تلك الصعوبات، ثم السفر، ولم أقبل الدعوة، لكن الآن يمكنني إجراء ذلك اللقاء نفسه، من بيتي: فقط مكان مرتب، ومزاج عادي، والضغط على رابط معين في الكومبيوتر، أو الهاتف المحمول، ولا شيء آخر.
قلت إن تلك الدائرة اتسعت، وأصبحت تلك الدعوات كثيرة، وبعضها ملح جدا، وبسبب أن تلك المؤتمرات سهلة، كما قلت، ولا مبرر لرفضها في نظر من ينظمها، تجد كثيرون لا يستسيغون الاعتذار، وبعضهم يغضب، وربما يتهم المدعو الذي يعتذر بالغطرسة، وعدم الاهتمام بالمشاركة في نشاط حيوي.
أنا شخصيا لا أمانع الاشتراك في نشاطات الزوم تلك، متى ما استطعت، سواء كانت ثقافية أو علمية، لكن في المقابل أشير إلى شيء حيوي يغفله الكثيرون، أو ربما لا يريدون الالتفات إليه في الأصل، وهي أن المشارك، لا يشارك بوقت شخص آخر، وإنما بوقته الخاص، الذي قد يكون بحاجة إليه في نشاط آخر من أنشطته اليومية، مثلا قد يكون يود أن يعمل في وظيفته، أو يود الخروج مع ابنه لشراء مستلزمات ما، أو يذهب إلى جراج في منطقة صناعية ما، كي يصلح سيارته، أو حتى ليتعلق في باص مكتظ بالبشر وروائح البشر، في البلاد التي ليست مرفهة كمعظم بلادنا العربية.
هذا الوقت الخاص يتم تجاهله، ولا يتحدث أحد عن سعره، أي عن مكافأة تمنح للمشارك لقاء تنازله عن ذلك الوقت، ولقاء جهده أيضا في صياغة المشاركة، وإلباسها أبهى الحلل اللغوية والمعرفية، لتسر أذني من يتابعها، يتحدثون عن ضرورة المشاركة، ضرورة الوجود في الزمن المحدد، والضغط على اللينك للظهور افتراضيا، ثم ينتهي اللقاء، ويردد المشاركون شكرا جزيلا، إلى اللقاء في مؤتمر آخر.
الذي يحدث هو الاستفادة من التقنية في الحصول على الجهد والوقت بلا أي ثمن، باعتبار، أو ربما ظنا ممن ينظم تلك اللقاءات، أن المشارك تم تكريمه، بإظهاره لامعا في الزوم، وجلب عدد لا بأس به من الحضور للاستماع إليه، وربما أكثر كثيرا من الذين كانوا سيحضرون ندوته في الواقع. وقد يكون الأمر حقيقيا في مسألة عدد الحضور، لأنني شخصيا شاهدت ندوات عديدة في معارض الكتب التي كنت أزورها، في ما مضى، خالية تقريبا من الحضور، وأعتقد أنني ذكرت مرة أنني دخلت ندوة عن الترجمة، وكان يوجد ثلاثة أشخاص فقط، والمحاضر متشنج يخاطبهم: صحافية شابة، ومصور صحافي، ورجل مسن ينظف نظارته الطبية بقميصه بين حين وآخر، غير مهتم بما يجري على المنصة.
لكن ليس معنى ذلك أن يصبح الأمر عرفا سائدا، وبشكل اعتيادي.
الفيروس اللعين هذا سيذهب بكل تأكيد كما ذهبت أوبئة أخرى غيره، عبر التاريخ، لكن تقنية الزوم في رأيي لن تذهب، ستظل تلك التقنية المجانية التي تعوض عن وجود النشاط واقعيا، بلا أي منصرفات، ولأن الكتابة، أو احتراف الكتابة بمعنى آدق، مغامرة غير مجدية، أعتقد ستظل لقاءاتنا المستقبلية «زومية»، وهكذا لا لقاءات بالأصدقاء والأحباب ولا مكافأة على جهد.
٭ كاتب سوداني