لماذا أبعد غازي إذن؟

حجم الخط
4

(1) رغم الغموض المتعمد الذي غلف مبادرة الرئيس السوداني عمر حسن أحمد البشير في خطابه الاثنين الماضي، والشكوك في جديتها، إلا أن عرض الحكومة لحوار جاد مع كل أطياف المعارضة، بما فيها الجماعات المسلحة، يحتاج لاختبار جديته بوضع النظام والحزب الحاكم أمام التزاماتهما عبر الانخراط في الحوار، مع اشتراط إشراف دولي، أو افريقي في الحد الادنى، مع إطلاق حرية التعبير والتحرك السياسي ووضع آليات لإشراك الأطراف المسلحة.

(2)

وكان خطاب البشير قد أصبح موضع تندر في الأوساط السودانية بسبب تقعر لغته وغموض عباراته أو سخفها، بينما تعرض الخطاب لانتقادات من قيادات معارضة أوحى حضورها غير المتوقع لإلقاء الخطاب بأن صفقة عقدت وراء الكواليس. وقد عبرت هذه القيادات (مثل الشيخ حسن الترابي الذي أنهى حضوره قطيعة مع النظام استمرت منذ عام 1999) عن خيبة أملها لخلو الخطاب من ‘المفاجآت’ التي روجت لها آلة النظام الإعلامية بين يديه.
(3)

كانت مفارقة كذلك حضور د.غازي صلاح الدين، القيادي السابق في المؤتمر الوطني، بعد أن كان قد أبعد من الحزب في أول بادرة من نوعها بعد أن وجه خطاباً للرئيس يطالبه فيه تحديداً بإطلاق مبادرة تكاد بنودها تتطابق مع ما طرحه الرئيس في خطابه. ولكن قيادات الحزب، وعلى رأسها البشير، رأت في نشر غازي لنص رسالته للرئيس خروجاً على الحزب وأصرت على طرده من الحزب. ولعل أول سؤال يطرح نفسه هو: إذا كان الحزب جاداً في طرحه لمبادرة الحوار، فلماذا طرد غازي ورفاقه من الحزب أصلاً لمجرد التوصية بإطلاقها؟

(4)

طرح البشير المبادرة باسم الحزب الحاكم في ما بدا بأنه خطوة ترمي إلى تعزيز قبضة الحزب على الحكم، واستيعاب القوى السياسية الأخرى في نظام يهيمن عليه. وكنت قد أشرت في مقالة سابقة إلى إرهاصات بأن البشير يريد إطلاق ‘حقبة ساداتية’ يستخدم فيها شعار إطلاق الحريات لضرب ‘مراكز القوى’ داخل الدولة بعد أن تخلص في وقت سابق من كبار المتنفذين في السلطة كما فعل السادات مع قيادات العهد الناصري.

(5)

يطرح هذا المسعى سؤالاً آخر لا يقل أهمية: وهو لماذا يرى المؤتمر الوطني، بعد قرابة ربع قرن في الحكم، أنه يحتاج للمعارضة لتنفيذ ‘الوثبة’ التي زعم أنه بصدد إطلاقها؟ ما الذي يمنع الحزب من وثبة ووثبات إذا كان بصدد ذلك؟ ولعل هذا هو بيت القصيد، لأن ما يستشف من خطاب البشير أنه وحزبه يشعران بالثقة لمنازلة المعارضة في الساحة السياسية على أسس نزيهة. إلا أن الإشكالية ليست في أن السودانيين ضيعوا الفرص خلال ستين عاماً كما جاء في الرئيس، بل هي أن البشير وحزبه ضيعا ربع قرن من الزمان دون إنجازات يمكن الاعتزاز بها. وعليه فالحزب أشبه بتاجر مفلس يتأهب لمنازلة أصحاب الأرصدة الوافرة في السوق، وهو أمر غير ممكن بغير الاستدانة أو الغش.

(6)

كان بوسع الحزب الحاكم، لو شاء، استغلال انفراده بالحكم لضرب المثل في الحكم الصالح والنزاهة، والتجرد لخدمة الشعب، كما فعل حزب ‘العدالة والتنمية’ في تركيا (قبل أن تدركه آفات الحكم في الآونة الأخيرة). عندها سيكون بوسعه مواجهة الناخبين بثقة، ولم يكن بحاجة إلى اتخاذ الإجراءات الاستثنائية من قمع وتكميم أفواه حتى يبقى في السلطة. ولن تكون هناك حاجة إلى دعوة للحوار في هذه الحالة، لأن الحوار بين فئات الشعب سيكون القاعدة وليس الاستثناء، وذلك عبر البرلمان والإعلام الحر واللقاءات المفتوحة وفضاءات المجتمع المدني والبنى التقليدية وغيرها.

(7)

الحزب الحاكم يدرك قبل غيره بأنه غير قادر على مواجهة خصومه في انتخابات حرة ونزيهة. ولهذا ظل يلجأ إلى إجراءات مثل تقييد حريات التعبير والتنظيم، والاستغلال السيىء للمال العام والسلطة. وكل هذه إجراءات تعمق أزمة الحزب ولا تعالجها، لأنها من باب التداوي بالتي كانت هي الداء. فهو مثل إدارة مصرف مفلس تعالج أزمته بالتلاعب بالحسابات، والتغول على ودائع العملاء، والاستدانة من غير رصيد. وكلها إجراءات تعجل بالانهيار عندما تقترب ساعة الحقيقة والحساب، وينكشف المستور (إذا كان هناك مستور في حالتنا هذه).
(8)

مهما يكن، فإن من الواجب أخذ الحزب الوطني إلى باب الدار، ووضعه أمام اختبار جدية لدعوته للحوار. ذلك أن الحوار هو أقل طرق التغيير كلفة وأسرعها. ولعل أقرب طريق لإثبات صدقية المؤتمر الوطني وجديته في الحوار يكون بإلغاء قرار إبعاد غازي ورفاقه وتكليفه ملف الحوار مع المعارضين. وإذا تعذر ذلك فإن أضعف الإيمان هو تكليف الملف شخصيات تحظى باحترام المعارضة والقبول بوساطة محايدة، إما من شخصيات وطنية مستقلة تجد القبول من الجميع، أو عبر آليات الاتحاد الافريقي. ولا بد أن يسبق الحوار إطلاق الحريات ووقف القمع في حق المعارضين، إذ كيف يصح الحديث عن حوار والأفواه مكممة؟
(9)

طريق الحل للأزمة السودانية أصبح واضحاً ويكاد يكون محل إجماع بين الأطراف السودانية. ويبدأ الحل بحوار جاد بين كل الأطراف بغرض الوصول إلى توافق حول دستور جديد وانتخابات حرة ونزيهة بعد إنهاء الحروب والنزاعات المسلحة، وتحييد مؤسسات الدولة ونزع السلاح من أي جهة سوى الجيش والشرطة. وكلما تم التعجيل ببدء الحوار، كلما اقترب الفرج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول gameel tharwat:

    How do you explain the absence of Bakri and abdelrahim from the meeting please

  2. يقول Hadib:

    بعض الكتاب لا يهتمون بالشأن الاقتصادي مما يؤدي الي غبش الرؤيا في تحليلاتهم. فالاقتصاد عصب الحياة والإيلاف بين عبادة رب هذا البيت ورحلة الشتاء والصيف (اي التجارة او البزنس بلغة اليوم) من صميم وعصب ديننا. وبالرغم من أن عامة الشعب السوداني لا تفهم في ال Macro-Phenomena اي الظواهر في جللها، فإن رجل الشارع السوداني يتمتع بفراسة البدوي التي تهتم بالنتائج وهذا سبب صبره علي الإسلاميين السودانيين فهو يعلم بفطرته بأنه بالرغم من أنهم في أمس الحاجة الي (عدلة رأس)، فإن الإسلاميين هم أفضل من في الساحة وقد رأي علي أيديهم تحسناً كثيراً في الإقتصاد ويقف اليوم محتاراً من أسباب إصابتهم بعجز القادرين علي الكمال. النسخة الاولي للحركة الإسلامية السودانية 1.0 كانت دعوية، والثانية 2.0 هي حكومة الإنقاذ، وما لا يعلمه كثير من الناس هو ان الشعب السوداني في إنتظار النسخة الثالثة 3.0 وهي النسخة الإبن خلدونية. فالإقتصاد السوداني مبتلي بسيطرة العسكر وأجهزتهم الأمنية ومصاب أيضاً بما يسمي بال Dutch Disease أي المرض الهولندي أو لعنة الموارد الطبيعية. فالارتفاع في سعر صرف العملة المحلية، الناتج من بيع سلع كالنفط والذهب، يقتل القطاعين الزراعي والصناعي ويؤدي الي الجنوح للاستهلاك عبر الاستيراد. والاخطر من ذلك ان تدفق المال من استغلال الموراد الطبيعية يؤدي الي اصابة متخذي القرار السياسي بقصر النظر وخلق طبقة من المـتـنـفذين المستفيدين من الوضع القائم تقاوم الاصلاح مما يؤدي الي ترهل الجهاز الاداري للدولة ويتسبب في اضعاف مؤسساتها ولربما يؤدي الي انهيارها. وقوة الجنيه السوداني التي كانت ناجمة عن المرض الهولندي ومصدرها اليوم تلاعب الحكومة (عبر البنك المركزي) بسعر الصرف هي احد الاسباب التي جعلت البلاد جاذبة للعمالة الاجنبية، مما أتاح لبعض الجيران الفرصة لتصدير مشاكلهم الإقتصادية ألينا وذلك عبر استفادتهم مما سماه شيخ الرأسمالية آدم إسميث بسياسة beggar thy neighbour policy أي (سياسة شحذة الجيران).

    كثير من الناس لا يعلم أن سبب صبر السودانيون علي حكم البشير ناجم من النجاحات التي حققتها الإنقاذ عبر إتباعها لسياسات الخصخصة. والنسخة الثالثة 3.0 من الحركة الإسلامية التي ينتظرها الشعب السوداني ويتحرق لها شوقاً هي نسخة إبن خلدونية الطابع تعتمد علي المبادئ الإبن خلدونية (مثل الحكومة الصغيرة الرشيقة، تخفيض الضرائب ومنع تدخل السلطان في التجارة). ومن الأشياء التي قد تفوت علي البعض أن سياسة الخصخصة إبن خلدونية الأصل والإنقاذ حركت الإقتصاد السوداني بإنتزاع صفحة واحده فقط من مقدمة إبن خلدون وذلك عبر تأثر أحد وزرائها بسياسات رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر المتأثرة برفيقها الروحي الرئيس الأمريكي روناد ريغان المتأثر من خلال مستشاريه الإقتصاديين بفكر إبن خلدون. فقد إكتشف الخواجات أن في افكار إبن خلدون ترياق وبلسم للأمراض التي تنجم عن تدخل السلطان في التجارة. هذا فضلاً عن »منحي لآفر« Laffer Curve الذي اقتبسه العالم الأمريكي آرثر لآفر من مقدمة إبن خلدون والذي يوضح العلاقة العكسية بين زيادة معدل الجباية وحصيلتها، اذ أن المعدل العالي للضرائب يؤدي الي تقليل أو عزوف الناس عن النشاط الاقتصادي ومن ثم تقليل القاعدة الضريبية tax base. ومن الجدير بالذكر ان الرئيس الاميركي رونالد ريغان، الذي كان آرثـر لآفـر من أبرز مستشاريه، جعل من هذا المبدأ حجر الزاوية الرئيس لفترة حكمه. والذي يريد الإثبات عليه ب موقع مؤسسة التراث الأمريكي “

  3. يقول اسامة..ا:

    الي Hadib…قلت اية ( عجز القادرين عن الكمال ).. شيئ واحد فقط صحيح في هذه المقولة
    ينطبق على حكم اﻻنقاذ ( العجز ) ..وهل تعتبر الخصخصة هي النجاح في نظرك واشم رائحة بعض علم اﻻقتصاد ارجو أن تعيد قراءته بواقعية ..الخصخصة في بلد مثل السودان يعتبر فشل ..هروب …انت تبشرنا بالنسخة اﻻبن خلدونية كما اسميتها..والبشير يبشرنا في خطابه اﻻخير ب( الوثبة ) فيالجرائتكم …ويا لصبرنا.

  4. يقول الأزرق السوداني:

    الى Hadib… التحسن الاقتصادي الذي تتحدث عنه هو ما جعل نسبة الفقر تتجاوز 90% من أفراد الشعب .
    لسنا متشوقين للنسخة الثالثة من حكم الإسلاميين ، وإذا استمر الحال هكذا لن يبقي في السودان أحداً ليرى هذه النسخة الموعودة .
    لعلمك : ابن خلدون نفسه لو قام حياً بيننا لعجز عن فهم ما يجري في السودان ولتبرأ منه .

إشترك في قائمتنا البريدية