لماذا أرادوا للثورة السورية أن تدخل عامها الرابع؟

استغرقت الثورة التونسية ثمانية وعشرين يوماً فقط. أما المصرية فدامت لثمانية عشر يوماً بالتمام والكمال. صحيح أن الثورة أخذت بعض الوقت في اليمن، لكنها انتهت من حيث الفعل الثوري خلال فترة وجيزة. وحتى في ليبيا التي أخذت شكل الصراع السوري المسلح، انتهت الثورة خلال ثمانية أشهر على الأرض من خلال تدخل دولي. لا شك أن الأوضاع بعد الثورات في تونس ومصر واليمن وليبيا تعسرت في بعض الأحيان، وتفاقمت أحياناً أخرى، لكنها على الأقل انتهت بخسائر مادية وبشرية محددة تبدو مجرد ‘لعب عيال’ بالمقارنة مع ما يحصل في سوريا من أهوال ودمار طال البلاد كلها، وبدأ يطال البلدان المجاورة، وحتى أنه راح يهز المنطقة العربية برمتها جيوسياسياً واقتصادياً. باختصار، لم يكن هناك مصلحة للكثير من القوى استمرار الثورات على الأرض في تونس ومصر واليمن وليبيا. لاحظوا أيضاً كيف وضعوا حداً للأزمة الأوكرانية خلال أسابيع قليلة، فتنحى الرئيس يانكوفيتش منعاً لمزيد من التفاقم. وهنا نتساءل: لماذا سمح العالم لبقية الثورات أن تنتهي بسرعة، بينما ترك الثورة السورية تتفاقم لتصبح وبالاً على السوريين والمنطقة عموماً؟ لا نعتقد أن الأمر مجرد تقاعس، أو إهمال، أو عدم مبالاة.
هناك الكثير من المؤشرات والدلائل على أن ترك الثورة السورية تتفاعل، وتأتي على الأخضر واليابس داخلياً، وتهز المنطقة برمتها خارجياً ليس أمراً عرضياً، بل يبدو مدروساً ومتعمداً. فلو كان هناك نية دولية حقيقية لانتهى الوضع قبل أن يدخل عامه الأول، لكنهم تركوه يدخل الآن عامه الرابع. لاحظوا مثلاً أن أمريكا ترفض تسليح قوى المعارضة بسلاح مضاد للطيران، لا بل تمنع البلدان الأخرى من تقديم ذلك السلاح للجيش السوري الحر منذ زمن. فلو توفر ذلك السلاح على الأقل لتوازن الصراع على الأرض بين النظام والمعارضة، وبالتالي دفع الجانبين إلى مفاوضات حقيقية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سوريا. لكن الواضح أن هناك خطة لإطالة أمد الصراع من خلال تزويد النظام بأعتى أنواع السلاح الروسي والإيراني، وتزويد قوى المعارضة بسلاح يسمح باستمرار القتال فقط، لكنه لا يسمح بحسم الأمور على الأرض، ولا حتى بتحجيم قوة النظام. وهذا لوحده دليل كاف على أن المطلوب في سوريا استمرار الاستنزاف والدمار. لقد غدا واضحاً أن الجيش الحر يدخل منطقة ما، فيحاصره جيش النظام، وتجري المعارك، فتتدمر المنطقة، ويهاجر سكانها، فينتقل الجيش الحر إلى منطقة أخرى، وهلم جرّا. إنه مسلسل تدميري مفضوح يمارسه النظام وقوى المعارضة بنية التدمير المقصود والمبرمج والممنهج.
هل كان للكثير من القوى أن تسمح بإغراق سوريا بمختلف الجماعات المقاتلة القادمة من الخارج وتحويلها إلى أفغانستان أخرى، لو أن العالم كان يريد فعلاً حل القضية السورية؟ بالطبع لا. لقد فاقم دخول جماعات مختلفة إلى سوريا الوضع، وفتحه على احتمالات خطيرة للغاية، خاصة بعد دخول القوى الشيعية كحزب الله وغيره إلى ساحات القتال. هنا بدا وكأنه حرب مذهبية مدروسة. لاحظوا أن القتال يجري الآن بين قوى شيعية وسنية بشكل مفضوح. وهناك من يرى بأن الحرب المذهبية الحقيقية في المنطقة انطلاقاً من سوريا مازالت في بداياتها، وأن القادم أعظم.
لقد انتهى مؤتمر جنيف دون أي ضغط دولي لإحراز أي تقدم. والأنكى من ذلك أن العالم منح الرئيس السوري بعد فشل المؤتمر ضوءاً أخضر لخوض الانتخابات الرئاسية كمرشح أوحد، مما يعني ضمناً إطلاق رصاصة الرحمة على مؤتمر جنيف الذي كان ينص على تشكيل هيئة حكم انتقالية تنتقل بسوريا إلى عهد جديد. أين العهد الجديد بعد أن يفوز بشار الأسد بولاية رئاسية جديدة لسبعة أعوام؟ لاحظوا الآن كيف يتم التحضير لحملة الأسد الانتخابية وسط صمت ومباركة دولية لا تخطئها عين، وكأنها مكافأة دولية للدور الذي يلعبه النظام في خلخلة المنطقة وإعادة تركيبها. لقد تنحى الرئيس الأوكراني بعد مقتل مائة شخص وبضعة أسابيع فقط من المظاهرات، بينما يسمح العالم للرئيس السوري بالترشح والفوز في الانتخابات بعد نزوح ثمانية ملايين سوري داخلياً، وتهجير ستة ملايين خارجياً، وتدمير ثلاثة أرباع البلد، ومقتل مئات الألوف. لا يمكن أن يكون هناك هدف من وراء التعامي عن انتخاب بشار الأسد لفترة رئاسية جديدة سوى استمرار مسلسل التخريب داخل سوريا لتدمير ما لم يُدمر بعد، وإنهاك المنطقة خدمة لمشاريع دولية كبرى. ويرى بعض الساخرين أن الأسد لن يكون فقط رئيساً جديداً لسوريا، بل قائداً مُتوجاً لمشروع الفوضى الخلاقة الأمريكي.
ولو عدنا إلى تصريحات بشار الأسد نفسه بعد ستة أشهر على اندلاع الثورة في لقاء مع صحيفة ‘التايمز’ البريطانية لوجدنا أن ما هدد به الأسد من فوضى وقتها يتحقق الآن على أرض الواقع بحذافيره، وكأنه كان يخطط مع قوى كثيرة لإيصال سوريا والمنطقة كلها إلى هذه النقطة الحرجة والخطرة جداً. قال الأسد وقتها: ‘إن سوريا تقع على فالق زلزالي خطير، وإذا تحرك هذا الفالق، ستخرب المنطقة بأكملها’. لقد كان الرئيس السوري في ذلك التصريح يهدد بتنفيذ مشروع ‘الفوضى الهلاكة’ نيابة عن صاحبه الأمريكي. ويبدو أنه أوفى بوعده تماماً. لاحظوا الآن أن الوضع السوري بدأ يشكل خطراً وجودياً على باقي دول المنطقة، فعدد اللاجئين السوريين في لبنان أصبح أكثر من مليون ونصف، وبات يهدد تركيبة لبنان الديمغرافية. وكذلك في الأردن، ومصر، وتركيا. ناهيك عن أن وضع العراق يزداد سوءاً بالتناغم مع الوضع السوري. وهذا بحد ذاته تهديد مرعب للمنطقة. أضف إلى ذلك أن بعض دول المنطقة بدأت تهتز على وقع الزلزال السوري، وخاصة تركيا. ولا ننسى كيف بدأ الوضع السوري يستنزف خزائن بعض الدول العربية المنخرطة في الصراع.
ألا يرى ضباع العالم هذا الوضع الخطير داخل سوريا وعلى حدودها في الدول المجاورة؟ أم إنها الفوضى الخلاقة التي أرادوها لرسم شرق أوسط جديد، وها هو النظام السوري ينفذها على أكمل وجه؟ يبدو أن هذا هو المطلوب من إطالة عمر الأزمة السورية، فهم يستغلونها، ليس فقط لاصطياد العصفور السوري، بل لضرب عدة عصافير عربية وإقليمية بحجر واحد.
من مهازل هذا الزمان أن النظام السوري هو أكثر من هاجم مشروع ‘الفوضى الخلاقة’ الذي أعلنته وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، وهو الذي يقوده الآن بإخلاص منقطع النظير. وسلم لي على ‘الممانعة والمقاومة’.

‘ كاتب واعلامي سوري
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد سوريا:

    كلام صحيح ومعرف من بداية الثورة ولكن ستكون ثغرة صغيرة تناسها هؤلاء الانظمة المخربة وستنكشف قريبا باذن الله وستكون صفعة لامريكا وحلافائها

  2. يقول اسامه الكماري سوريا:

    بسم الله الرحمن الرحيم

    يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين
    صدق الله العظيم

  3. يقول عمرالخيام الفريقي:

    في ليبيا ومصر واليمن وتونس بل فعل كنت ثورا حقيقة وانتصرت الشعوب أما في حالة السورية لم تكون أي ثورة بل تدخل أجنبي وتكفيري ضد للمقاومة العربية ممثلة في الجيش السوري وشعب السوري البطل ومازال الشعب السوري والجيش السوري يقاوم الاجتماعية الجنبيه من الشيشان وأبناء المهجرين اللهم لو ثار الشعب السوري لكان الاسد في روسيا اليوم عاش الشعب والجيش السوري والأسد

  4. يقول أحمد سوريا:

    أنا برأيي بأنها تبدو بأنها فوضى خلاقة، ولكن هي تعكس عجز المجتمع الدولي بأكمله بما فيهم الدول العربية أمام هذا الشعب العظيم الذي مدحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعجزه عن كسر صمود هذا الشعب…. بدأت الثورة سلمية ولكن بعد أن تمادى هذا النظام بقمع الشعب وأصبح يضرب دون أن يميز بين مؤيد ومعارض، انتقلت الى السلاح، وأحب أن أنوه هنا بأن الثوار بدؤا بأسلحة بسيطة مثل قنابل الملوتوف وأسلحة الصيد وتمكنوا من اغتنام اسلحة اثقل، ربما لو بقينا على هذه الأسلحة ربما كنا انتصرنا لأن كان اعتمادنا وقتئذ على الله، ثم تدخلت دول وأيادي خارجية لإطالة أمد الثورة، عن طريق دس المندسين والمخبرين والحرامية والسراقين

    لكن هذا كله سوف يذهب هباء وستكون كلمة الله هي العليا

  5. يقول سامح // الامارات:

    شكرا للدكتور ( فيصل ) ع مقاله الجميل .
    * نعم …إنها ( الفوضى الشاملة ) …وجميع الدول كسبانة باستثناء
    ( الدول العربية ) …خسرانة حتى النخاع .
    ** لو كان الطاغية ( بشار ) ونظامه الفاسد …وطني ومقاوم …كما يدعي
    لوافق على طلبات ( جماعة جبريل وحزب الله ) بشن عمليات عسكرية
    ف ( الجولان المحتل …ولكن النظام رفض …وما زال يرفض لهذه اللحظة) ..؟؟!!
    * ( المحرقة السورية ) …أحرقت الجميع ف المنطقة ما عدا ( اسرائيل ) المجرمة
    ويبدو أنّ هذا هو ( لب الموضوع ) ومقصده …ف النهاية …؟؟؟!!!
    شكرا .

  6. يقول روستم شواني:

    مقال جيد جداً وممتاز وثاقب في أسلوبه ومحتواه
    بارك الله فيك يااستاذ فيصل على أسلوبك الناري الذكي وشجاعتك في التعبير وفضح الإجراميين والقتلة

  7. يقول حسن علي سوريا:

    ان تدهور الاوضاع في بلادنا بشكل عام وفي سوريا بشكل خاص هو نتيجة ما وصل اليه مستوى مثقفينا( او حسب ما يدعون بانهم مثفين ) من انحدار بل الاخلاق ومن فقدان الشعور بحس الوطنية ونسوا بان هذة البلد هي من ولدوا فيها وهي من تعلموا في مدارسها وجامعاتها وهي من اكلوا من خيراتها والان ينكرون كل ذلك ويجلسون في الجحور الاجنبية يتطاولون على بلادهم واوطانهم فكيف تطلب منا ان نصدقكم ونحن نرى ونسمع كيف تنهال عليكم الملايين بل المليارات من الاموال المشبعة بدماء الابرياء

  8. يقول عبدالله ناصر:

    الثورة السورية سوف تطول والحرب عليها من الشرق والغرب والفرس والعرب سوف تستمر لهدفين اساسيين هما امن اسرائيل وحتى يدفع السوريين ثمنا باهضا وهو ما يحصل اﻻن ليكون عبرة لبقية الشعوب العربية بان ﻻتفكر في القيام على جلاديها.
    ويبدو هذان الهدفان يسيران كما خطط لهما لكن يبقى اﻻطمئنان على ثباتهما واستمرارهما وهذا لن يتأتى اﻻ بالحل السلمي وهو اقامة دولة محاصصة طائفية مع اختفاء بشار من المشهد السياسي ارضاء للمعارضة.

    طبعا ما يؤخر هذا الحل واستمرار الحرب هو المعارضة السورية ﻻنها ترى فيه خدمة ﻻيران واسرائيل وبقاء حال سوريا كحال العراق ولبنان. لكن السؤال هل تستطيع المعارضة اﻻستمرار برفض هذا “الحل السلمي” والدماء تسيل انهارا والبيوت تدمر ومجرمي العالم تتفرج فرحة بنجاح مخططهم في تحويل ربيع العرب الى خريف في سوريا.

  9. يقول جبل النار . الولايات المتحده الامريكيه:

    كلامك سليم مائه في المائه

  10. يقول عبد الكريم البيضاوي.:

    ياأخ فيصل , أنت ذكرت أوكرانيا, لو سرنا في نهج فكرة المؤامرة , أليست هذه أكبر مؤامرة من الغرب بتواطؤ مع روسيا على أوكروانيا من أجل تفتيتها وتشتيها وقضم جزء من أراضيها ( القرم والأجزاء الشرقية ) ومنحه لروسيا؟

    نحن العرب لانريد الإعتراف بأخطائنا , دائما نلبسها للغير, مثلنا مثل السائق المخمور عند دحسه الناس بسيارته كان رده: ” هم من أخطأو ووقفوا في طريقي, فإن لم يفعلوا لما دحستهم.”

    الغرب كان متحمسا في بداية الثورة السورية لمساعدة الشعب السوري, لكن , ولنكن صريحين وإلا فمانخدع إلا أنفسنا ولقرون قادمة, دخول الإرهاب لسورية هو ماجعل الغرب يرفع يديه.

    أهل يعقل أن يغرق الغرب المنطقة بالاسلحة المتطورة لكي يصبح هو هدفا لها في يوم من الأيام؟

    علينا تغيير عقليتنا في الخطاب والتحليل ونروم الواقع قدر المستطاع ولو أن الواقع قد يكون مرا ولكن لنبدأ فسنتعلم بدون أدنى شك.

    1. يقول imad eddine:

      أخي مع احترامي لكلامك لو كان به منطق فهو منطق الجبناء الذين دعا عليهم الخالد بن الوليد بأن لا تنام أعينهم, اذا أردنا التكلم عن مشاكلنا فأهم مشكلة هي أننا نسينا الله فهو اﻵن ينسينا أنفسنا وندفع ثمن التفريط بأماناتنا وحقوقنا وتسليم رقابنا ومصائرنا لمن يلعب بنا ويسرق ثرواتنا ولحكام امتهنوا افسادنا, ولنعلم أن الجميع سيصبح تحت الأرض ليحضر للحساب وما أدراك ? وبما فينا الخالد خالد الجهاد رضي الله عنه القدوة, فلنعلم أن الأمانة اﻵن هي الجهاد لتبقى الأوطان لنا والأعمار بيد الله فحي على الجهاد وكما قال جدنا خالد لا نامت أعين الجبناء.

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية