عندما اتصل بي بعض أصدقاء من باريس لإمضاء نداء للتضامن مع الشعب الأوكراني ضد الغزو العسكري الروسي، أمضاه ثمانون مثقفا وكاتبا معروفين، من العالم والمنطقة العربية، بمن فيهم بعض الجزائريين المقيمين بفرنسا.
كنت أدرك، كما توقع ذلك محررو النداء أنفسهم، وكتبوه داخل النص الذي صدر في يومية «اللوموند» الفرنسية يوم 18 إبريل/نيسان الحالي، ألا يجد هذا النداء كل التأييد داخل مجتمعاتنا وبين نخبنا المختلفة لأسباب عديدة. يمكن أن أفصل بعض الشيء فيها وأنا أتكلم عن الحالة الجزائرية التي أعرفها أكثر من غيرها، رغم أن الحالة تتشابه في بعض أوجهها على الأقل، مع الوضع العربي العام. ولا تختلف عنه نوعيا.
حالة فكرية وسياسية ما زال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتمتع فيها برصيد كبير من التأييد والإعجاب كرئيس قوي وحازم، أعاد لروسيا قوتها وحضورها في مواجهة عدوانية الغرب، سنوات بعد تفتيت وسقوط الاتحاد السوفييتي وتدهور حالته التي جعلته يفقد جمهورياته القديمة، على غرار أوكرانيا وغيرها من جمهوريات وسط آسيا وشرق أوروبا، التي استقلت وانضمت إلى الحلف الأطلسي الذي استغل سياسيا عداء جزء من نخبها القديم لروسيا والسوفييت. ليمنحه الكثير من العدوانية. لنكون بذلك أمام المستوى الأول لتفسير هذا الموقف المعادي لبيان التضامن مع الشعب الاوكراني الذي امضته وجوه فكرية وسياسية دولية معروفة بمواقفها المعادية لتغول الغرب والحلف الأطلسي، منذ سنوات. المستوى النفسي-السياسي لدى أبناء ثقافة سياسية تطالب، وهي تؤيد بوتين بشكل واع أو غير واع، برئيس قوي وحازم ـ فكرة المستبد العادل -عكس ما تعيشه هذه النخب مع رؤسائها وملوكها الذين لا يتوفر لديهم لا الكاريزما ولا الحضور الدولي ولا تلك المقارعة التي تطلب بها هذه النخب، للمعسكر الغربي، لتجد نفسها أمام مستبدين فقط وفاسدين فقط ومنبطحين أمام الغرب فقط، من دون أي مشروع آخر. رئيس يبدو أن صورته لم تتأثر سلبا بما قام به من فظاعات في سوريا، بعد أن أقنع جزءا مهما من هذه النخب أن حربه في سوريا، كانت ضد الإرهاب وليس ضد الشعب السوري، الذي ثار سلميا في بداية انتفاضته، ضد نظام بشار، قبل أن تتغير المعطيات وتتحول سوريا إلى مرتع لتدخل أجنبي متعدد الأوجه، تحول عمليا إلى جزء من لعبة دولية وإقليمية، يتحكم فيها اللاعب الروسي بشكل أساسي. كما لم تتأثر صورة بوتين في السابق بما قام به ضد الشعب الشيشاني، فالحرب التي يقودها الحلف الأطلسي ضد بوتين وروسيا، تبرر كل هذا وأكثر، فالمهم بالنسبة لهؤلاء الرفاق القدماء، هو ألا ينجح الحلف الأطلسي في حصار الاتحاد السوفييتي … عفوا روسيا. وكله يهون بعد ذلك. موقف توقع من حرر النداء حضوره القوي داخل مجتمعاتنا، وبين نخبنا وهو يقول إن العداء للغرب وللحلف الأطلسي وسياسة التضامن الانتقائي التي يتبعها الغرب، ليست حجة كافية لعدم اتخاذ موقف تأييد للشعب الأوكراني الذي يتعرض إلى عدوان عسكري روسي بشع. بالطبع الأمر لا يتعلق بالرئيس بوتين كشخص، رغم أنه تحول عمليا إلى فاعل سياسي أساسي وسيبقى لمدة طويلة، بعد التعديلات الغريبة التي قام بها لقانون الانتخابات الروسي، فهذه النخب تتخذ موقفها مما يحصل في أوكرانيا، اعتمادا على قراءة موضوعية تحيل إلى البعد الدولي والعلاقات الدولية، فهي متخوفة من تغول الحلف الأطلسي وأمريكا على العالم، وترى في روسيا حليفا يمكن أن يُعدل لصالح بلدانها ولو جزئيا موازين القوى على المستوى الدولي، لذا ترى من مصلحتها أن تدافع عن روسيا وترفض حصارها انطلاقا من أوكرانيا أو دول البلطيق أو أوروبا الشرقية عموما وهو موقف فيه الكثير من البراغماتية والصحة، من وجهة نظر وطنية بحتة، فليس من مصلحة دول العالم الثالث ـ والمنطقة العربية بالطبع – أن ينفرد الحلف الأطلسي وأمريكا بتسيير شؤون العالم، كما ظهر في كامل عنجهيته وهو يغزو العراق وليبيا وهو يؤيد إسرائيل بشكل مستفز ويومي، على حساب الشعب الفلسطيني الذي يتغافل عن قضيته، منذ أكثر من نصف قرن، فالعالم كل العالم في حاجة إلى علاقات دولية أكثر توازنا وأكثر ديمقراطية، يمكن أن يساعد عليها وجود أقطاب دولية من بينها روسيا بالطبع والصين ودول البريكس.
تيارات عربية خائفة من التحولات العالمية، تظهر وكأنها تخلت عن قيم أخلاقية كانت تدافع عنها، لدرجة السكوت على ذبح الشعب السوري بحجة الحرب على الإرهاب
بُعد دولي يمكن أن نضيف له التنشئة السياسية التي تميز هذه النخب، التي اتخذت مواقف متحفظة وحتى رافضة، ومنددة في بعض الأحيان، بهذا النداء الذي أمضاه الكثير من الوجوه المعروفة من كل أنواع الطيف السياسي والفكري الجزائري والعربي والدولي. فهي في الغالب نخب – ستينية وسبعينية ـ تنتمي لتيارات سياسية وفكرية معروفة في منطقتنا العربية، ما زالت حاضرة ومؤثرة جزئيا، رغم المنافسة التي تجدها من قبل نخب صاعدة، أكثر ارتباطا بالتحولات التي يعيشها العالم، نخب يمكن تقسيمها إلى ثلاثة تيارات أساسية: بقايا اليسار ـ الستاليني في غالبيته – القديم الذي لم يهضم حتى الآن سقوط الاتحاد السوفييتي، وتحول روسيا إلى دولة رأسمالية وطنية، قريبة من تيارات أقصى اليمين في سياستها الداخلية على الأقل، بالإضافة إلى بعض ممثلي التيارات القومية التي ما زالت تحت تأثير هزيمتها داخل الكثير من البلدان العربية، في العراق وسوريا واليمن وليبيا، التي خسرتها كتجارب وقواعد، وأخيرا أبناء العقيدة الوطنية الجزائرية بمحتواها المعادي للإمبريالية، كما كان سائدا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في الجزائر، وبعض دول المنطقة، الذين يمثلون الجزء الأكبر في حالتنا التي نتكلم عنها. تيارات زادت انغلاقا في الفترة الأخيرة هي التي كانت معروفة أصلا بفقرها الفكري والسياسي، حتى عندما كانت تقود تجاربها الوطنية وهي في حالة صعود. انغلاق زاد أكثر نتيجة فشل تجارب الدولة الوطنية ذاتها التي كانت وراءها أو دافعت عنها هذه النخب، ما جعل البعد الدولتي في فكرها هو البارز الأكبر على السطح، هو الوحيد الذي بقي يجمعها كإسمنت ويقلل من الفروق التي كانت حاضرة بينها في السابق عندما كانت تقود تجاربها المختلفة وتقاتل بشراسة بعضها بعضا. تيارات خائفة من التحولات العالمية التي عرفها العالم في العقود الأخيرة، تظهر وكأنها تخلت بشكل مروع عما بقي لديها من قيم أخلاقية كانت تدافع عنها في وقت مضى، لدرجة السكوت على ذبح الشعب السوري بحجة الحرب على الإرهاب، تماما كما تفعل الآن وهي تسكت على جرائم بوتين في أوكرانيا بحجة مقاومة مد الحلف الأطلسي.
كاتب جزائري
روسيا دوله معتدية ونحن نتضامن مع اوكرانيا كما تضامننا مع الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي