لماذا تتسلط بعض الأقليات على الأكثرية في بلادنا؟

ليس هناك شك بأن من حق الأقليات في العالم العربي أو في أي مكان آخر من العالم أن تعيش بأمان، وأن تحافظ على خصوصياتها الثقافية والاجتماعية والدينية دون أي ضغوط، أو اضطهاد، أو ابتزاز، أو إرهاب من طرف الأكثرية، لكن الديمقراطية والمواطنة التي تحفظ حقوق الجميع، بمن فيهم أتباع الأقليات، تؤكد في الآن ذاته على أن توجهات ورأي الأكثرية هو الأهم. فكلنا يعلم أن جوهر الديمقراطية هو حكم الأكثرية، حتى لو كان الفرق بين الرابح والخاسر في الانتخابات ربعاً بالمائة.
صحيح أن الدول الديمقراطية تحفظ حقوق الأقليات تماماً بغض النظر عن انتماءاتها الروحية أو العرقية، إلا أنها في الآن ذاته قلما تسمح لأتباع الأقليات بتولي المناصب العليا كمنصب رئيس الدولة، حتى لو كانت بعض الأقليات تحظى بنفوذ اقتصادي أو سياسي هائل. باختصار شديد، رغم علمانيتها المعلنة، فإن دساتير الدول الغربية تنص على أن يكون الرئيس أو الملك من طائفة الأكثرية، فحسب المادة الثالثة من قانون التسوية البريطاني ينبغي على كل شخص يتولى المُلك أن يكون من رعايا كنيسة إنكلترا. أما الدستور اليوناني فينص في المادة 47 على أن كل من يعتلي حكم اليونان يجب أن يكون من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. ولا بد أن نعلم أن اليونان فيها الملايين من المسيحيين الذين يتبعون الملة الكاثوليكية والبروتستانتية، بل ويوجد الملايين ممن يتبعون الديانة الإسلامية، ولم يعترض أحد على المادة 47 من الدستور اليوناني، طالما أن المفهوم هو أن غالبية أتباع الدولة اليونانية يتبعون الديانة الأرثوذكسية الشرقية.
أما في إسبانيا فتنص المادة السابعة من الدستور الإسباني على أنه يجب أن يكون رئيس الدولة من رعايا الكنيسة الكاثوليكية، باعتبارها المذهب الرسمي للبلاد.
وفي الدنمارك، فالدستور الدنماركي ينص في المادة الأولى على أن يكون الملك من أتباع كنيسة البروتستانت اللوثرية، مع العلم بأن الدنمارك يعيش فيها الكثير من أتباع الملة الأرثوذكسية والملة الكاثوليكية وأتباع الديانة الإسلامية، ولم يعترض أحد على المادة الأولى من الدستور الدنماركي.
وفي السويد، فالدستور ينص في المادة الرابعة على أنه يجب أن يكون الملك من أتباع المذهب البروتستانتي الخالص، مع العلم بأنه يوجد الكثير من أتباع الملة الأرثوذكسية والكاثوليكية وأصحاب الديانة الإسلامية في السويد. هل طالب أحد بإلغاء المادة الرابعة من الدستور السويدي؟
أليس من حق الأكثرية في البلدان العربية على ضوء ذلك أن تجادل بأن الغلبة السياسية والاجتماعية والثقافية يجب أن تكون للأغلبية المسلمة بحكم أنها الأكثر عدداً داخل هذا البلد أو ذاك، كما هي الحال في الدول الديمقراطية؟ أليس من حقهم أيضاً أن يطالبوا بالسيادة العامة في بلادهم في كل المجالات عملاً بالمبدأ الديمقراطي، وبأن لا تـستخدم شماعة الأقليات للانتقاص من حقوق الأكثرية كما هو حاصل في بعض البلدان العربية؟

سوريا غدت مرتعاً للخطف والقتل وتجارة المخدرات والفقر والجوع وانهارت اجتماعياً ومعيشياً

وبناء على ذلك، لا بد للأقليات في العالم العربي ألا تقف أبداً في وجه تطلعات الأكثرية في أي بلد مهما كانت الأسباب. ومن السخف الشديد وقلة الحكمة أن تتحالف الأقليات فيما بينها، أو تصطف إلى جانب أي نظام تثور عليه الأكثرية، حتى لو كان ذلك النظام مناسباً ومقبولاً بالنسبة لها، مع العلم أن الأنظمة الديكتاتورية الساقطة أكثر من أساء للأقليات وداس عليها، لأن الطواغيت لا يفرقون بين أقلية وأكثرية، بل يريدون أزلاماً تلعق أحذيتهم. هل تعلموا مثلاً أن نظام الأسد دفع أكثر من ثمانين بالمائة من مسيحيي سوريا إلى الهجرة؟ انظروا حال مناطق الأقليات في بلد حامي الأقليات المزعوم في سوريا. لقد غدت مرتعاً للخطف والقتل وتجارة المخدرات والفقر والجوع وانهارت اجتماعياً ومعيشياً. إن مناصرة الأقليات لهذا النظام أو ذاك هي نوع من الانتهازية الآنية الحقيرة والساقطة، ولا يصب حتى في مصلحة الأقليات، ناهيك عن أنه يحرّض الأكثرية على الانتقام من الأقليات لاحقاً عندما تصل إلى الحكم. ولن يلوم أحد الأكثرية في أي بلد عربي فيما بعد لو اتهمت الأقليات بأنها وقفت من قبل مع هذا النظام أو ذاك ضد طموحات وتطلعات وتوجهات الغالبية العظمى من الشعب. فلتفكر الأقليات دائماً قبل الانجرار الأعمى وراء هذا النظام أو ذاك من أجل مصالح مرحلية زائلة.
جدير بالذكر هنا أنه في الوقت الذي كان يضحي فيه الملايين في بعض المناطق الثائرة من أجل الحرية كان يقوم أتباع بعض الأقليات حفلات غنائية ماجنة «يـمجد خلالها النظام القائم وتعظم رموزه، مع أن رائحة الموت كانت تزكم أنف البلاد» ناهيك عن أن المذبوحين على أيدي برابرة النظام لم يبعدوا عن المطبلين والماجنين أحياناً بضعة كيلومترات. لماذا لا يفكرون بالارتباط الجغرافي الذي لا انفكاك منه؟ يا الله كم هم مغفلون وتائهون! «هل فاتت الراقصين هذه الحقيقة، وهل فات من يستطيعون التأثير عليهم من حكماء مزعومين أن رقصهم في الملاهي الليلية بينما كان جيرانهم يذبحون بفاشية عز نظيرها قد يفضي إلى مزيد من القطيعة والعداء بين مكونات الشعب الواحد، التي عاشت متآلفة متآخية على مر تاريخ يمتد لنيف وألف وخمسمائة عام.. وللعلم، فإن التاريخ لن ولا يجوز أن يرحم أحدا إن هو وقف جانباً، أو «رقص على جثث من يموتون من أجل حريته».
أليس من العيب أن تسمح بعض الأقليات لنفسها بأن تكون ألعوبة أو عتلة أو رأس حربة، أو مخلب قط في أيدي بعض الأنظمة الحاكمة بحجة الخوف من وصول أتباع الأكثرية إلى الحكم، ومن ثم تنكيلهم بها لاحقاً؟ أيتها الأقليات: كوني بعيدة النظر، ولا تدعي البعض يتاجر بك لأغراض سلطوية نفعية مريضة. هل أدركت الآن ماذا فعل بك آل الأسد في سوريا مثلاً؟
ولو كان هناك حكماء حقيقيون في أوساط بعض الأقليات العربية المتهورة وليس مجرد ثلة من المرتزقة والمأجورين قصيري النظر لكانوا وقفوا مع تطلعات الأكثرية، أو على الأقل أوعزوا إلى أتباعهم بالتزام الصمت وعدم استفزاز الأكثرية الثائرة، بدل التطبيل والتزمير لأنظمة آيلة للسقوط عاجلاً أو آجلاً، فلا ننسى أن التاريخ صولات وجولات، والبقاء دائماً للأكثرية. وكم كان الأديب الأمريكي مارك توين محقاً عندما مرّ قبل مائة وخمسين عاماً على دمشق الضاربة جذورها في التاريخ، وقال قولته الشهيرة:
«لقد رنت عيون هذه المدينة إلى آثار ألف إمبراطورية خلت، ولا شك أنها سترى بعدُ قبور ألف إمبراطورية قادمة قبل أن تموت».

كاتب واعلامي سوري
[email protected]

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سمير عامر حلواني:

    كلام سليم، حتى في البلدان الغربية والشركات الكبرى نادرا ما يتم تسليم مناصب ادارية عليا للأجانب اللهم إن كانوا ذوي قدرات إحصاء إقتصادية ضامنة لكسب أرباح عالية للشركة أو لتحميلهم مسؤوليات خاصة وليكون لبعضهم استقطاب للأقليات في صالح الأغلبية.

  2. يقول سامي صوفي:

    يسلّم الأيادي أخي حسام.
    أما أصول عائلة الأسد فهو يحتاج الى مقالة خاصة بهم.

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    لقد نجح بشار البهرزي في زراعة حقد أزلي بين الطائفة النصيرية والأكثرية من الشعب السوري!
    هذه الطائفة عزلت نفسها عن الجميع طواعية حتى تكون السلطة أبدية فيها!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    الطائفة النصيرية تتبع مذهب التقية دائماً حين فترة ضعفها!
    لكنها تتبع مذهب التمايز حين تكون السلطة بيدها!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  5. يقول علي البحار:

    اصبت د فيصل
    الكلً تواطؤ مع الغرب الصهيومسيحي لقتل والفتك باهل السنة في المشرق العربي

  6. يقول ماغون:

    إن كانت العنصرية منطلقها القبيلة فإن منطقة المشرق العربي قد زرعت فيها التفرقة قبل وبعد الحملات الصليبية فنمت زمن الإستعمار الغربي ثم أثمرت عند حلول العدو الصهيوني على أرض فلسطين فضاعت الأوطان وتشردت الشعوب لأجل أن تعيش أقلية بسطوة المال.

  7. يقول ابن بغداد:

    لا اعرف ان يوافق الدكتور فيصل القاسم وبناء على مقالته ان ينص الدستور العراقي ليكون مذهب رئيسه هو المذهب الجعفري حيث انه مذهب الاغلبية. انا اعرف انه بمقالته كان يعني سوريا ولكن سؤالي هو هل يرضى القاسم بالمثل الذي طرحته عن العراق، وكذلك الحال فيما يتعلق بالبحرين، فان وافق فقد آمنت بايمانه بالفكرة التي طرحها

    1. يقول علي:

      نعم ان لم يكن ولاؤها لغير الوطن ، للجيران مثلا

  8. يقول م. محمد جبرؤوتي:

    تتسلط الأقليات لتفتيت الأمة بسبب خوف الغرب من أهل السنة والجماعة في الغرب يرون أن أهل السنة هم مشروع نهضوي يمكن في أي لحظة أن ينفجر ويستعيد مجده لهذا تحالفت الصادات الثلاث – الصليبية الصهيونية الصفوية – لتدمير أهل السنة والجماعة.

  9. يقول م. محمد جبرؤوتي:

    هناك صراعا على المنطقة بين الصهيونية والصفوية وهناك أيضا تحالف بينهما وهذا يفسر التناقض الحاصل بين العملي – ترك الشيعة يتمددون- والنظري – العقوبات والتهديد والوعيد- فحالة التخبط في أعاصير السياسة الغربية سببها التخوف من أهل السنة والجماعة فأمريكا لا يمكنها الاستغناء عن إيران التي تتمدد وتعمل على تدمير الأمة وتفتيتها لهذا نرى سيطرة للأقليات والميليشيات وبنفس الوقت تريد بقاء الغلبة والسيطرة لصالح الحركة الصهيونية لهذا نشهد عقوبات وتهديد ووعيد طويل الأمد وأحيانا يأخذ شكلا رومانسيا كما حدث عندما حددت أمريكا هدف الرد على مقتل قاسم سليماني.

  10. يقول د.راشد ألمانيا:

    دكتور فيصل المحترم ، قدرنا في سوريا أن الكيان الصهيوني نشأ إلى جوارنا ، فكان لزاما على الدول الراعية لهذا الكيان أن تضمن حمايته ، فما كان من البريطانيين إلا أن استقدموا حافظ و المحسوب على الأقلية العلوية إلى الحكم ، و عملت بريطانيا و فرنسا على عمل تحالف أقلوي في سوريا يساعد حافظ على الاستمرار في الحكم و حماية حدود الكيان العبري ، فلذلك قام حافظ بعملية توطين الجيش و جعله قاصرا على العلويين مع واجهة سنية ديكورية فقط ، فكان من الطبيعي أن تقوم الأقلية بتهميش الأكثرية .

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية