لماذا تركيا الان؟

حجم الخط
1

بالرغم من أن تركيا تتمتع بنظام برلماني ديمقراطي انتخابي، خلاف الانظمة الجهوية’التي تغذي تلك الاحتجاجات التي يشهدها ميدان تقسيم، وتمدها بخفاء لخلخلة أمن تركيا تنفيذا لمخططات اسيادهم غربا أم شرقا كانوا، قلت بالرغم من ذلك لم يشفع لها واقعها الذي عملت عليه لمدار عشر سنوات أمام هذه الاحتجاجات التي ينعتها البعض بالصبيانية. تركيا التي تحكم من قبل حكومة يزعم بأنها ذات خلفية إسلامية بقيادة الثلاثي رجب طيب اوردغان وربيبه أوغلو والحافة الأخرى عبدالله غول، طبعا رأس سنامهم بلا منازع، هو رجب طيب اوردغان الذي نهض بتركيا نهضة أرقت مراكز الابحاث السياسية الاقتصادية الاجتماعية في الغرب.
ففجأة انقلبت تركيا بـ 180 درجة الى محيطها الاقليمي التاريخي الجواري، فبعد أن كانت تتمرغ على اعتاب الاتحاد الاوربي وتستجديه ليلحقها بذيل الاتحاد الأوربي، والذي كان بدوره يتمنع ويتدلل ويمكر ويؤجل، قلت: فجأة تحولت تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية إلى دولة عصامية بل محورية وأكثر من ذلك أقليمية بيدها مفاتيح كثيرة تعقد وتحل تمد وتصد، منطلقة من تراث عبقها الاسلامي التاريخي، على ضوء ذلك سأذكر بلمحات بسيطة عن تجربة تركيا اليوم في المجال الاقليمي السياسي ومعقبات ذلك، استهل ذلك بملاحظة لاذعة من أن القوى القطبية المتنفذة في العالم تبتغي ان تستمر دول اسيا بمجملها، بعيدة كل البعد عن أي حياة سياسية حضارية قادرة، ولا يألو هؤلاء جهدا في شيطنة الشعوب الشرقية، وإبقائها في ديمومة للتطرف والبدائية والتبعية، ليتم لهم كطبقات مخملية مدركة – بالمعنى الأوسع- التحكم بمقدرات هذه الشعوب وثرواتها، ومتى احتاج الامر يتدخلون في شؤونهم بمناسبتهم وإفتراضهم كجنس حضاري أرقى، لهذا وزيادة، وقتما بدأت تركيا تتحول للاعب رئيسي في المنطقة، واخذت دورها الاقليمي الفاعل، دور مجلوب ومجبول بإستقرار سياسي مصاحب بإصلاحات دستورية ديموقراطية، وحققت بسياستها الذكية ثقلا اقليميا وعلاقات دولية متفرعة مع الدول العربية والصين وروسيا وبعض اوربا، فعززت بالتالي من مكانتها الاستراتيجية في جميع العالم، مكانة حدت بمجلة التايم لترقّم تركيا العصرية كأكثر دول العالم تأثيرا على القرار الدولي ..تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية مهدت لاستقرار – كما اسلفت – سياسي لم تنعم به سابقا خلال سنوات مديدة، فقضت على الفوضوية والاضطرابات والانقلابات، بإصلاحات داخلية عززت من قيم الحرية، وقضت على نفوذ الجيش العلماني بهيكلة اجهزة القضاء وتأسيس حياة مدنية كاملة، هذا الجيش الذي تشربّ بالفكر الاتاتوركي الملحد وانسجم مع الهوية الفرانكوفونية الطابع، التي أفرط أتاتورك في إتباعها، هذه المؤسسة العلمانية التي اسقطت اربع حكومات خلال 40 سنة، تصدى لها حزب العدالة والتنمية بحزم.
يشهد الكاره والمحب لتركيا وقيادتها انهم رسخوا معايير قوية للنظام الديمقراطي، معايير هي قريبة لمقاييس الديموقراطية الغربية، لهذ كله واكثر، خشي من أي تقارب لتركيا مع دول الربيع العربي التي تحاكي الديموقراطية التركية، وتنتهج اسلوبها على طراز حزب العدالة والتنمية، بل أن مصر كمثال اخذت تتعاون مع تركيا بعدة اوجه، وحالما بدأت أو كادت تركيا تسجل حضورها الاقليمي بجدارة، في سوريا في بورما في العراق، بدأت الاحتجاجات وليس غريبا ان يتزامن ذلك مع جولة مغاربية مكوكية يقوم بها اوردغان، ونحن نعلم أن المغاربة خاصرة اوربا الموجعة، فكيف وقد آتاها اوردغان، الذي يبرق بتجربته لحزب النهضة التونسي، ولحزب العدالة المغاربي، غلا وحسدا وحقدا على كل ذلك. قلت: عمد زارعو المطبات على تنغيص التعامل التركي السخي مع الدول العربية، وتقويض ثقلها ووزنها العالمي، واستنزافها وشطبها من الاعتبار الاقليمي ..«’فكانت الاحتجاجات.
بقراءة سطحية لخطاب الحزب الحاكم في تركيا ونظره وفكره البعيد يستشف أنهم ينطلقون بتركيا من تاريخ وميراث وتراث امبراطورية اسلامية عريقة تهتم بالمسلمين ويؤلمها ما يؤلمهم ويحل بهم، فاوردغان ذكرّ الجميع ممن اطمأنوا وارتاحوا لتهميش تركيا، ذكرهم بأن دولته ليست دولة مارقة، وإن دولته استباحت بيضة اوربا يوما وغيرت مجريات تاريخية عظام في العالم ..وكأن اوردغان يقول لسلفه من العلمانيين وغيرهم أن التاريخ الحقيقي لتركيا لم يبدأ في تاريخ 23-1923 وهو يوم استقلال تركيا وتأسيس الدولة الجديدة، بل أن تاريخها كان قبل ذلك بكثير، أجل قالها اوردغان بصريح العبارة وزاد على ذلك أنه يفتخر جدا بالسلجوقيين وأضاف -في لفتة نوعية تؤكد أنه ادار ظهره للغرب ان علينا اليوم حماية الشام وإن اسطنبول وشام مدينتان توأم، وكرر أن العراق سوريا مصر جميعها اصابع يد واحدة وقريبة من بعضها لدرجة كبيرة، يظهر الحزب يسوق تركيا ويتجه بها نحو طموح مستلهم لتاريخها…تركيا ذات قومية وتاريخ ودين وهي اخذت تتحول كما كانت دوله محورية مركزية لن ترضى بظلم الظالمين… وملحوظة اعزائي انا شخصيا متعصب للعرب وأؤمن أن الخلاص فقط على يد العرب بعودتهم لدينهم وأن أمن الاناضول وأمانه يبدأ من دمشق والحجاز وبغداد هذه هي مسؤوليتنا التاريخية التراثية ..ونحن لسنا اتباعا لاحد لا للاتراك ولا للبريطانيين وعلينا أن نتحرك بناء على ايماننا بقيمة الحرية بكل هدوء وعقلانية وحكمة وتشاور … لإيمان تركيا العميق بحق الجوار،لهذا ولكل ما ذكرت اعلاه، كانت الاحتجاجات…
زد على تلك النقاط قاصمة الظهر لدول الصناعية الثمانية ومن يلف لفيفها أن تركيا غدت دولة اقتصادية في المقام الاول وسأتعمق في كيفية ذلك بعد سطور، مستهلا ذلك بأربع كلمات للدافع الرئيس لنجاح تركيا الحديثة ‘فالقيادة التركية قضت على الفساد’، قضت على الربا وعلى أولي المعصية وأغلقت حانات الليل التي شرب واشرأب بظهرها المتنفذون الملايين الملايين …والان-بصورة ما-بعد أن بدأت الحكومة التركية تجلجل لطرح قانون يمنع الخمور ومصانعها، إنتفض ذوو رؤوس المال في هذا المجال، فحرضوا على التمرد ومعاكسة السلطات بحجة أن الحكومة تهدد النظام العلماني لتركيا,هذا النظام الذي لم يجلب لتركياءالرخاء الاقتصادي بعكس حزب العدالة والتنمية الذي تعتبر أهم إنجازاته الخرسانية الخامية، كما يتضح في مجال الاقتصاد، وبصفتي مهتما تاريخيا في مجالات الاقتصاد فقد وقفت طويلا بوقفة متأنية على التجربة التركية الاقتصادية المعاصرة التي بفضلها شهد صندوق النقد الدولي رسميا لتركيا بأنها إحتلت المرتبة السابعة عشرة في سلم الاقتصاد الدولي.
فحزب العدالة والتنمية بقيادته قادوا حركة ديناميكية توخت تحقيق جميع التطلعات والمتطلبات التي بينّوها في برامجهم الانتخابية، وقد نجحت بلا شك في ذلك واشركت جميع القطاعات حتى تم لهم تحقيق الرفاهية الشاملة بنظرتهم المجتمعية المتكاملة أفقيا.
إن الاقتصاد التركي الذي يحلو للبعض تسميته اصطلاحا بالمعجزة لم ينبع بمسحة سحرية ويحقق انجازات هائلة بعملا هزيل، إنما العمل الاقتصادي الجبار المخلص الوفي الممنهج المؤسس على رأسمالية السوق هو من تمم تلك المعجزة المزعمة، وكان ذلك حجر الزاوية الذي أعاد تركيا الى تاريخها ودورها ومكانتها وهيبتها. فالفضاء الاقتصادي الرحب الذي جلب الامن والاستقرار والرخاء لتركيا هو بفضل الحزب الوحيد والاوحد الذي استعمل كود العلامة الفارقة وحقق بها جميع انجازاته القوية، وهذا الكود هو محاربة الفساد ودحره والقضاء عليه نهائيا، ومنظمة الشفافية الدولية TIشهدت لحزب العدالة والتنمية انهم طهروا القطاعات الحكومية والخاصة من الفساد لتتراجع نسبه بمعدل 90′. ونحن في معرض الحديث هذا نحتاج الى تعريف موجز سطحي لما كانت عليه تركيا قبل 2002 فقد ذابت وذوت تركيا آنئذ في بؤس مالي فظيع، عنوانه بالبنط العريض تآكل وفساد مالي اعشوشبت فيه الرشاوى والاستغلال وأعمال السوق السوداء، فغلبت على تركيا أو أريد لها كذلك، سمة الضمور الاقتصاد في ظل حكومات علمانية قومية متتالية، ففقدت الليرة التركية 70′ من قيمتها، ومعدل نمو لا يتزحزح عن 3 ‘ منذ التسعينات.
على وقع الازمة العالمية المالية الرهيبة 2001 وعلى ضوء العجز المتراكم في الميزانية العامة، وصل حزب العدالة والتنمية واستلم سدة الحكم، فاستهل رحلته من العدم، وحقق أكبر معدل نمو في اوربا والعالم يتجاوز 8 ‘ في فسحة سنين، وكل المؤشرات الانية تشير الى أن تركيا تتجه صوب تحقيق طفرة نمو جديدة. اتركونا نترك الفلسفة لنتحدث بالأرقام، فالاقتصاد التركي المتنامي بلغة الارقام يتحدث عن نفسه ولا ينكره ناكر،’فالتجربة الاقتصادية لتركيا واضحة جدا ومثمرة، يظهر لك جلاء ذلك من طفرة نوعية حدت بتركيا لتتحول لغول اقتصادي رهيب يؤرق الاقتصاديات الكبرى التي تبتغي أن يمضي العالم كسوق مستهلك ويستمر في الإتكالية والإعتكازية عليها هي فقط، وهنا شذ مارد الاقتصاد التركي الرائد عن هذه القاعدة، فحقق خانات اقتصادية قياسية على جميع الاصعدة يحسد عليها، ففي ظرف سنين انخفضت معدلات التضخيم وزاد حجم الاستثمار المحلي، وارتفعت معدلات النمو وتراجع الدين العام الخارجي ( 25 مليار دولار 2003 )، ودّرّ الاحتياط النقدي، وازدادت معدلات الانتاج، وتم جلب استثمارات جديدة لتغدو تركيا محجا للاستثمارات التي تجاوزت قيمتها منذ 2003 ال 100 مليار دولار، وازداد كذلك الدخل القومي للفرد ليتضاعف 10 مرات عما كان عليه سابقا، فقد كان قبل 2003 متوسط ودخل الفرد سنويا نحو 3000 دولار، ليصل اليوم لسقف 11 الف دولار (ويكبيديا)، وتطورت كذلك الصناعات التركية لينمو هذا القطاع بنسبة 60’، ورغم الادعاءات بخلفية النظام الحاكم في تركيا الا ان القطاع السياحي سجل نموا متواصلا وجدي خلال حكم الاخيرين، اما الصادرات فتضاعف حجمها عشر مرات بعد 2003 ليصل 152 مليار دولار خلال العام السابق فقط (للمقارنة حجم الصادرات المصرية العام السابق 22 مليار دولار) .. اما القطاع الزراعي فتركيا وصلت للذروة المحبذة في ذلك وحققت الاكتفاء الذاتي لشعبها.
هكذا اذن نهضت تركيا على قوائمها، برضى شعبي تام خاصة انها وصلت الى ما وصلت اليه دون افراط في رفع الضرائب وإرهاق كاهل الشعب، ودون استغلال الطبقة البروليتارية الكادحة، وبلا تعجرف او تطرف او مغالاة انفتحت على جميع اسواق العالم، وانجزت لمواطنها البسيط رفاهية لم يحلم بها من رعاية صحية عصرية، وتعليم جدي اكثر، وسهولة خدمات كما وكيفا، وغير ذلك كثير من تحسين الظروف العامة للمواطن العادي.
بهذا الاقتصاد نشرت تركيا الرعب في قلوب وجيوب الاقتصاديات الكبرى المتنفذة، والتي تدير بخفاء مصانع ومعامل ضخمة لإنتاج الأزمات لكل من لم يوافقها العبودية ويعارض هيمنتها الاقتصادية … لهذا الخط والبرنامج التنموي الاقتصادي الذي تبنته تركيا، بدا البعض منزعجا من تحقيقها لمكانة اقتصادية راقية ومميزة، فدفعتهم تحاليل شهواتهم ألى اشغال تركيا بنفسها، فكانت تجاجات
وللختام : تشهد تركيا اعزائي منذ اسابيع ما اصطلح على تسميته ـ غلوا- بالربيع التركي، ورأيت عزيزي أن الشارع العربي تفرق حول ذلك بددا، فبعضهم إتفق واخر إفترق، إلا أن المؤكد بغض النظر عن مصداقية أو التشكيك في الاحتجاجات تلك، أن الغرب واشياعهم قد تناغموا مع شباب ميدان تقسيم، ومدوا السلطات التركية بسيل من الحكم والنصائح.

‘ كاتب وصحافي من النقب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مي:

    لماذا لا تكتب اسمك يا اخ من النقب

إشترك في قائمتنا البريدية