قلت ذات مرة إنني لو قررت أن أريح عشاق التصنيف والأدلجة، فسأختار (من باب الترف) أن أكون ليبراليا، لكنني ومنذ الوهلة الأولى، سأبرأ علنا من معظم الليبراليين العرب، الأسباب كثيرة ولا بد من فهمها أولاً.
لقد شكلت الليبــرالية لدى العربي مفهوما ‘مستورداً’ وموائما بديلا لاندثار تيارات القومية والاشتراكية والتقدمية، التي كانت رائجة في المنطقة، واكب ذلك نزوع الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) في العالم العربي نحو المحلية والمناطقية، بدلا من القومية والعرقية العربية.’
كانت أنثروبولوجيا العربي قد خضعت للنقد ثم نقد النقد كامتداد للاستشراق ورحلات الاستعماريين، وتوصلت لاستنتاجات عدة حول العلاقة بين العربي والآخر، والعربي ونفسه. كثير من النقاد اعتبروا أن بزوغ جيل الليبراليين العرب، مثّل الهروب الأمثل من الراديكالية الإسلامية إبان مرحلة المواجهة مع الغرب في عهد تنظيم ‘القاعدة’. إجمالا، انضم لليبرالية ‘التيار’ من أرادوا إخفاء ماضيهم الفكري المنبوذ بعد ‘الإرهاب والجهاد’ (التكفيريون مثالا) أو بسقوط الأنظمة العربية التي كانت تدعم تياره وتوجهاته الأصل (الاشتراكيون الشيوعيون أو البعثيون مثالا).
في بادئ الأمر، وبعد انتهاء الحرب الباردة، كان هناك ليبراليون ونيوليبراليون، لكننا اليوم نرى بالكاد أياً منهما بالمطلق أو نتمكن من التفريق بينهما. بشكل عام، أصبحت الدعوة للاستقلالية تستهدف العقل الجمعي وتسعى لتجنيده طائفيا وعرقيا وطبقيا ومناطقيا، ودعوات الحرية والفردانية باتت تتكسر أمام السلطة الاستبدادية للمؤسستين السياسية والدينية، فتلجأ تارة للمداهنة سياسيا، وتارة لتسطيح ‘تيار’ الليبرالية، ثم يتلخص كل ذلك في التحرر الاجتماعي (لا السياسي) المعلن أو من وراء سُتُر. قليل من الليبراليين يبقون على جوهر المبدأ، وهؤلاء القلة ليبراليون حقيقيون، ولكنهم يوشكون على الانكساف.
ليت الليبراليين العرب تمسكوا على الأقل (بدلا من هذا التسطيح) بفكرة فريد زكريا حول ‘الأوتوقراطية الليبرالية’ التي لا تمانع في أن تكون الديمقراطية منقوصة، وهو النموذج الذي يناسب بلداننا الخليجية مثلاً، لكن ذلك لم يكن سهلاً، لأن معظم ليبراليي الخليج خرجوا من طبقات النخب السياسية والاجتماعية التي تغذي الأنظمة بالقيادات الشابة وراثة عن آباء كانوا تبعا للنظام، أو من طبقات النخب العلمية والفكرية الني تحولت إلى عدو للأنظمة (كالإخوان المسلمين والنيوليبراليين والقوميين والجهاديين). ومما لا شك فيه أن هذا الجيل يتحاشى صنع مواجهة من أي نوع في مرحلة ما بعد ربيع الثورات، التي تشهد توترا حادا في الخليج خصوصا، ومع استمرار قيام العلاقة بين الخليجي المحكوم بالاعتراف بالوصاية والحب العاطفي المحتفى به مجتمعياً، وعدم التفريق بين ما للحاكم وما هو مال عام (كما أشار لذلك علانيةً مسؤول أمني خليجي شهير). كما يجب ألا نغفل عامل الثروة الاقتصادية التي يتم توزيعها بحسب سلم ولائي متناهٍ في التعقيد.
في الوقت نفسه فإن ‘التيار’ عجز عموما عن إقناع الغالبية العظمى من الشعوب الخليجية بمبادئ ‘الديمقراطية الليبرالية’ التي يطبقها الغرب حاليا، لأنها في نهاية الأمر أقرب للدعوة للانقلاب على أنظمة قبلية بامتياز (مع مدنية تقتصر على مؤسساتية الدولة) وهي أنظمة تحظى بدعم شعبي ساحق ومبايعة لامشروطة وثقة وولاء مطلقين للرمز والقائد، كجزء من مفهـــوم ‘الوطنية والولاء’، تغذي ذلك كله وتخدمه (بطريقة غير ممنهجة غالبا) دعاوى دينية وتيارات فكرية ذات طابع ديني طائفي ومناطقي.
وإن كانت الليبرالية تتيح نظرياً المواءمة والتمدد أو الانكماش بما يتسق مع هذه المعطيات شديدة التعقيد، إلا أنه عاجلاً أم آجلاً سيخير المنتمون إلى الليبراليين الحقيقيين (في ظل تلك العوامل) بين الصدام المباشر والصريح مع الأنظمة التي تتباطأ إصلاحاتها السياسية والاقتصادية، أو التخلي عن جوهر المفهوم وإحلال مظاهر ‘الانحلال والتحرر’ بديلا صورياً.
لو كنت في مكان آخر بعيد عن منطقتنا، لكان من دواعي الفخر أن أكون ليبرالياً، فالليبرالية بمبادئها الحقيقية لا تناقض كوني مسلما ملتزما، بل أجزم أنها تكاد تطابق نموذج الإسلام ‘القرآني’ القائم على ‘العدل’ جملة وتفصيلا، والأمر نفسه يكاد ينطبق على العلمانية، وإن كانت موضوعا مختلفا قليلا، وكثيرا ما يختلط على العرب التفريق بينهما.
في حال ‘لو’، سأتمسك بالليبرالية لأنها تتفق مع كوني إنساناً يؤمن بالحرية والعدالة والاستقلالية، ويبحث عن بيئة صحية لإعمال العقل وإراحة الضمير وجعل مسؤوليته همّا فردانيا، ولا تتعارض مع كوني مواطناً يسعى لغد أفضل مع احترامه القانون والشرعيات، أو مع كوني مسلما كيفما اتفق ذلك ‘الإسلامط أو اختلف مع مفهوم ‘الآخر’، ومن دون أن أفرض على الآخر أن يكون مثلي. لكنني وحتى لا ألبس بدوري العباءة الضيقة التي فرضها واقع متأدلج تصنيفي متهتك، فقد أبرأ من غالبية الليبراليين العرب، لأنهم غالباً – في منطقتنا- يتحولون من معسكر التطرف الديني إلى معسكر التطرف اللاديني، ليصبحوا النسخة المعكوسة لذلك المتطرف المتشدد الذي أتشاجر معه في كل مناسبة لمحاولته هدايتي باعتباري كافراً ضالا، وذلك المتطرف المتشدد الذي يستخدم تقليديته الوسائلية (بإطلاق اللحية وإشعاثها وتقصير الثوب مثلا) غطاءً اجتماعيا براقاً وسلاحا لإقصاء منافسيه، من منطلق أنه يمثل ‘الفرقة الناجية’.
المدهش أن العربي حتى عندما يلحد – فما بالك أن يتحرر قليلاً فقط – فإنه يعتقد في قرارة نفسه بمبدأ نجاته مع هلاك الآخرين، وفي تلك الحالة، فإن محاولة التحرر تلك تبدو كمن ‘رمتنا بدائها وانسلت’ لا أكثر.
خلاصة ما بعد القول، أن التصنيف أو الأدلجة ليسا مهمين، بقدر أهمية معرفة المفهوم وفهمه الفهم الصحيح، ثم الاستفادة منه وكف أضراره المحتملة كل بحسب بيئته. المشكلة الأصل أن معظم العرب يسيئون فهم المصطلح قبل أي شيء. لا أنفك أردد أننا العرب نعاني أكثر ما نعاني من سوء إدراك للمفاهيم وإمعان في تشويهها – بجهل غالباً – ثم القناعة بأن التعريف الذي التقطناه برعونة هو الوحيد الذي يجب اعتماده والحكم من خلاله. ولذا، فإن اعتبار الليبرالية مفهوما غربياً مستورداً هو الجهالة نفسها لاعتبار ركوب الجمال عادة عربية حصراً.
‘ كاتب واعلامي اماراتي
lمقال في غاية الأهمية حول سوء فهم المصطلحات وربطها الخاطىء بنقيض العقيدة، وما يجره علينا ذلك من استفحال في استمرارية تخلفنا الحضاري
الشكر والتقدير موصول للكاتب الشاب
good content.
محمد الهاشميThanX !
Excellent article