هل كان مفترضا أو متوقعا أن يحدث العكس فتتحرك عجلة تلك العلاقات بوتيرة أقوى وتدور بسرعة أكبر من المعتاد، ويظل سيف الوقت في تلك الحالة مشهرا دائما وأبدا بوجه المغاربة والإسبان وكأنهم في سباق دائم وأبدي ضد الساعة، ليس مسموحا فيه بأي تأخير أو إبطاء؟ ربما يقول البعض. لكن ألم يكن من المنطقي والطبيعي جدا أن يتمهل الطرفان قليلا في بعض المرات، حتى يدرسا بعناية ودقة كل الحيثيات والتفاصيل التي تخص القضايا والمسائل العالقة بينهما منذ عدة سنوات وعقود، بدلا من أن يتسرعا ويعلنا بانفعالية وارتجال عن التوصل إلى حلها من خلال قرارات واتفاقيات يكون مآلها في الأخير أن تترك على الرفوف وتبقى وبعد الانتهاء من التوقيع عليها مجرد حبر على ورق؟ كما قد يرد آخرون.
إن المشكل الحقيقي هو أن البوادر والمؤشرات عن قرب توصلهما إلى تحقيق النتائج المرجوة من تقاربهما في أعقاب الجفوة التي حدثت بينهما في فترة سابقة، تجعل كثيرين غير مطمئنين إلى نجاحهما في ذلك المسعى. ومن المؤكد مع ذلك أنه وبعد مضي شهور على عودة الدفء إلى العلاقات بين بلديهما، يأمل المغاربة والإسبان في أن يروا بصيص أمل ولو ضئيل يبعث فيهما بعض التفاؤل.
الربط الآلي بين ملف الصحراء وملف سبتة ومليلية والجزر المحتلة، وضع البلدين في مأزق حقيقي وجعل كل واحد منهما يحاول الاحتفاظ بأوراقه كاملة وإلى آخر لحظة
لقد أثنى بيدرو سانشيز رئيس الوزراء الإسباني، السبت الماضي، على العلاقات بين الدولتين ولم يتورع عن وصف البلدين بالشقيقين والجارين، مضيفا في تصريحات إعلامية على هامش مشاركته في الرباط في مؤتمر للأممية الاشتراكية أنهما «يتقاسمان مشاريع ورؤية متماثلة بخصوص الملفات والتحديات التي يواجهها العالم ومجتمعانا» على حد تعبيره. لكن مع اقتراب العام الجاري من نهايته تبدو الصورة، بعيدا عن البيانات الرسمية وأرقام العقود والمبادلات والاستثمارات الضخمة، التي تمت بين الجانبين وأعداد اللقاءات التي حدثت بينهما وكم التصريحات الودية التي تبادلها السياسيون في الضفتين الشمالية والجنوبية للمتوسط، على نحو مغاير بعض الشيء. إذ لا يزال الإسبان وبعد اعترافهم قبل أكثر من عامين بأن الحكم الذاتي للصحراء تحت السيادة المغربية هو «الحل الأكثر جدية وواقعية ومصداقية» لتسوية الخلاف الإقليمي حولها، مستمرين والى اليوم في ادارة المجال الجوي المدني لتلك المنطقة، وذلك بعد عدة جولات من المحادثات والمفاوضات، التي تمت بينهم وبين المغاربة على امتداد الشهور الأخيرة حول تلك المسألة بالذات. كما لا يزال جيرانهم الجنوبيون بدورهم يرفضون أن يفتحوا مراكز جمركية مع بلدتي سبتة ومليلية المحتلتين، مفضلين أن تبقى التفاهمات التي جرت حول تلك النقطة بالتحديد مجمدة ومؤجلة إلى وقت غير معلوم، وحجتهم في ذلك هي أن هناك «أسبابا تقنية» تحول دون اتمام تلك العملية. والمفارقة هي ان كل ذلك يحدث في ظل شبه إجماع في كلا العاصمتين المغربية والإيبيرية، على ان العلاقات بين البلدين تمر اليوم بواحدة من أفضل الفترات في تاريخها المعاصر. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو، إن كان مثل ذلك الإجماع قائما على اعتبارات نزيهة وموضوعية وغير مبالغ فيها، فما الذي يقف إذن حاجزا أمام أن يرى المغاربة والإسبان وعلى الأرض تطبيقا فعليا وعمليا لما وصفها الإعلان المشترك، الذي صدر قبل أكثر من عامين خلال لقاء رئيس الوزراء الإسباني بالعاهل المغربي في الرباط بالـ»مرحلة الجديدة في علاقاتهما»؟ إن هناك من سيقول وبلا شك بأن الإرادة السياسية للبدء في تلك المرحلة موجودة، وإن الشرارة الأولى لها كانت هي اعتراف إسبانيا بالحكم الذاتي للصحراء تحت السيادة المغربية، لكن هل يمكن أن يتوقف الأمر عند ذلك الحد، من دون أن تقدم إسبانيا بوجه خاص على القيام بخطوة أخرى إلى الأمام وهي، إجراء مراجعة جذرية وعميقة لسياساتها الخارجية تؤدي بالاخير إلى تمكين المغرب من استعادة كل الأراضي التي استولت عليها وضمتها خلال حقب وعصور سابقة؟ لقد أكد الطرفان وفي البند الأول من «خريطة الطريق الدائمة والطموحة» التي تضمنها إعلانهما المشترك على أن إسبانيا «تعترف بأهمية قضية الصحراء بالنسبة للمغرب»، لكن ما الذي كان مقصودا ذلك بالضبط؟ وهل إن مثل ذلك الاعتراف كان، وفي جانب منه على الأقل، محاولة من جانب الإيبيريين للالتفاف على اعتراف ربما أعظم وأكبر بالنسبة لهم ظلوا يعملون جاهدين على تجاهله والتملص منه وهو، الاعتراف بحق المغرب في استعادة باقي أراضيه وجزره وحتى صخوره، التي ما زالت تحت السيطرة الإسبانية؟ لعلهم كانوا يرغبون في ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، حين أقروا بالحل الذي اقترحه المغرب لمشكل الصحراء، ولربما قادهم أيضا تفكيرهم في هذا الجانب إلى أن يعتبروا أن تركيز الرباط على ما اعتبرتها قضيتها الوطنية الأولى، أي الصحراء، سوف يجعلها تغفل أو تنسى باقي قضاياها الوطنية وتقدم لهم بالتالي وبمجرد أن يقروا لها بحقها في أراضيها الصحراوية، وكمقابل لذلك اعترافا تاريخيا وازنا وثمينا بحقهم في احتلال جزء آخر من أراضيها، التي لم تقر لهم به إلى الآن.
وفي كل الأحوال فإن تداخلا وتقاطعا بين عدة عوامل داخلية وإقليمية ودولية جعل تلك الحسابات تسقط في الماء، فالربط الآلي بين ملف الصحراء وملف سبتة ومليلية والجزر المحتلة، وضع البلدين في مأزق حقيقي وجعل كل واحد منهما يحاول الاحتفاظ بأوراقه كاملة والى آخر لحظة، والثابت أنهما كانا على علم تام بحجم التعقيدات المطروحة أمامهما، بل كانا يدركان جيدا ومن البداية مقدار الحساسية الكبرى لما كانا مقبلين عليه، حين أقرا وفي بند من بنود خريطة الطريق التي اتفقا عليها، وبصيغة ربما تكون غامضة أو ملتبسة بعض الشيء بأنه «ستتم معالجة المواضيع ذات الاهتمام المشترك بروح من الثقة والتشاور بعيدا عن الأعمال الأحادية، أو الأمر الواقع»، ما يعني أنهما أرادا أن يعطيا لنفسيهما هدنة تتيح لهما التفكير، بعيدا عن أي ضغط في الشكل الذي ستكون عليه علاقاتهما في المستقبل. لقد حدد المغاربة أولويتهم بوضوح وهي الصحراء. أما الإسبان فإن أولويتهم ظلت اليوم مثل الأمس هي غلق ملف سبتة ومليلية والجزر الجعفرية المحتلة بشكل تام ونهائي، والسبيل إلى ذلك بنظرهم هو التوصل إلى صيغة يقدم المغرب من خلالها تنازلا رسميا بعدم المطالبة بها، ولأن ذلك لم يتم إلى الآن فقد بدأت بعض الأصوات حتى داخل الحكومة الإسبانية، تعتبر أن إسبانيا قدمت للرباط تنازلات كثيرة، من دون أن تحصل منها بالمقابل على التنازل الذي تنتظره منها. لكن هل يعني ذلك أن العلاقات بين البلدين ستكون العام المقبل أمام منعطف تاريخي حاد قد يقودها إلى الأمام أو يعيدها الى الوراء؟
الثابت هو أن ساعة الحقيقة اقتربت أكثر من أي وقت مضى، وأن المغاربة والإسبان قد لا يكونون مستعدين لانتظار ما سيسفر عنه البطء الملحوظ في تنفيذ للبلدين لخريطة طريقهما.
كاتب وصحافي من تونس