لم يكن خافياً في 2011، بعد اندلاع حركة الثورة العربية في تونس، وامتدادها بعد ذلك إلى ليبيا واليمن وسورية، أن مصر ستكون موقع الامتحان الرئيسي لما يمكن أن تحققه أفكار التغيير الديمقراطي والإصلاح التي حملها الحراك الجماهيري العربي الكبير.
وربما بات من المبتذل تكرار مقولات أهمية مصر، ثقلها البشري، موقعها، وما منحها تاريخ العرب الحديث من تأثير واسع النطاق على محيطها العربي، حتى في لحظات ضعفها وانكفائها على الذات. ولكن تلك لم تكن الأسباب الوحيدة للارتباط غير المنصوص عليه بين مصر وحركة التغيير العربية.
كان هناك بالتأكيد سبب آخر، لا يقل أهمية، يتعلق بكيفية سلوك وتعاطي تيار الإسلام السياسي مع الحقبة الجديدة، ما يمكن أن تتركه رياح حركة التغيير الجماهيرية من تأثير في خطاب وتوجهات القوى الإسلامية السياسية، وما يمكن أن توقعه القوى الإسلامية السياسية من أثر على توجهات العرب المحدثين، سيما في البلدان التي طالتها حركة الثوة التغيير. ثمة قوى إسلامية سياسية تنشط في كل البلدان العربية، تقريباً، يعتبر بعضها الأكثر فعالية وثقلاً في الساحة السياسية لبلدانها. ولا بد أن كل دولة تحتفظ بسمات خاصة بها، وسيكون لهذه الخصائص دور بالغ الأهمية في تحديد طبيعة العلاقة بين الإسلاميين والحقبة السياسية الجديدة، المفعمة بآمال الحرية الديمقراطية؛ ولكن دولة غير مصر ما كانت تصلح نموذجاً لاستطلاع هذه العلاقة.
كانت مصر هي موقع ولادة التيار الإسلامي السياسي في نهاية العشرينات من القرن العشرين؛ بل أن مصر كانت الموقع الطبيعي لولادة هذا التيار. أولاً، لأن مصر اكتسبت منذ القرن التاسع عشر هوية خاصة بها، وخاضت تجربة التحديث بكل جوانبها، سواء على مستوى مؤسسات الدولة والحكم، أو على مستوى المجتمع. مقارنة بجاراتها العربيات، التي كان بعضها لم يزل ولاية عثمانية، وبعضها وقع تحت سيطرة الاحتلال الأجنبي، كانت مصر دولة غنية نسبياً، وطرفاً معتبراً في السوق الرأسمالي العالمي المتنامي والمتسع، الذي أخذ في التشكل منذ نهايات القرن الثامن عشر. وقد استطاعت مصر في العقود السبعة الأولى من القرن التاسع عشر، بناء مؤسسات دولة حديثة، مستلهمة النموذج الأوروبي الغربي، بموازاة، وفي بعض الأحيان سابقة بخطوة أو اثنتين المركز العثماني. ثانياً، أن سيطرة الدولة المركزية الحديثة على مجالات التعليم والقانون والجيش والتجارة، وانتهاجها سياسة إرسال البعثات التعليمية إلى دول أوروبا الغربية، سرعان ما ترك أثراً بالغاً على بنية المجتمع المصري، من حيث التقليص التدريجي لقوى الاجتماع التقليدية، مثل مؤسسة العلماء، والبروز الموازي لقوى اجتماعية جديدة، مثل رجال التعليم والقضاء والجيش الجدد. ثالثاً، أن هذه الحركة المتداخلة على مستوى الدولة والمجتمع اكتسبت تسارعاً حثيثاً بعد الاحتلال البريطاني في 1882، الذي جاء رجالاته في أغلبهم من الإدارة البريطانية في الهند، مختبر الاستعمار البريطاني الأضخم والأهم، محملين بتجربة ثرية للتعامل مع مجتمع مسلم تقليدي.
في 1919، وبعد انهيار الرابطة العثمانية، التي كانت صلات مصر الفعلية بها قد وهنت إلى حد كبير خلال العقود الماضية، شهدت مصر ثورة استقلال وطني، شبيهة، من حيث مطالبها وطموحاتها، بحركة الاستقلال التركية الي قادها مصطفى كمال في العام نفسه. ولكن الثورة المصرية لم تستطع تحقيق نتائج مثيلة لتلك التي حققتها حرب الاستقلال التركية. أعطى البريطانيون مصر بعد ثورة 1919 استقلالاً محدوداً، ساعد على نقل الصراع بين الجماعة الوطنية المصرية والاحتلال، إلى تدافع داخل الجماعة الوطنية نفسها. كانت حركة التحديث، كما التحديث في كل أسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، قد أسست لانقسام اجتماعي وسياسي وفكري، ثم جاء عقد العشرينات ليفاقم من حدة الانقسام، ليس حول مقاليد الحكم والسلطة والثروة وحسب، بل وحول هوية البلاد ووجهتها وعلاقتها بتاريخها وجوارها والعالم بأسره. ولادة تيار الإسلام السياسي، ممثلاً بجماعة الإخوان المسلمين، هي نتاج هذا الانقسام وإحدى أبرز تجلياته.
ولأن هذه الولادة هي ظاهرة تاريخية، فإن الإخوان لم يكونوا مشروعاً ناجزاً، لم يضعوا تصوراتهم الكلية منذ اللحظة الأولى؛ وستترك السياقات التاريخية، بالتالي، خلال العقود المقبلة، أثراً بالغاً وتكوينياً على خطابهم ورؤيتهم الفكرية وبرامجهم السياسية. لم يبدأ الإخوان مسيرتهم بالانخراط في العمل السياسي، وجاء انخراطهم السياسي التدريجي بفعل متغيرات الثلاثينات، وبعد أكثر من عشر سنوات على تأسيسهم. وفي العقود الأولى من عملهم، كان الإخوان دستوريين أكثر منهم ديمقراطيين، وقد نظروا بصورة سلبية إلى التشظي المستمر في الساحة السياسية والتدافع المهين بين أحزاب العهد الملكي على السلطة. وبالرغم من أن موقفهم في البداية كان إيجابياً من الملك، سيما في سنوات فاروق الأولى، فسرعان ما تخلوا عن هذا الموقف، بعد أن أخذ القصر في الانحدار بعد حادثة 4 فبراير/ شباط 1942 الشهيرة. وهذا ما جعلهم يقفون، بالرغم من تباين الروايات التاريخية، إلى صف الضباط الأحرار في 1952، ويتبنون برنامج الثورة. بعد الصدام المدوي بين الجماعة ونظام الضباط الأحرار، أجبر الإخوان على الانسحاب من ساحة العمل العام إلى العمل السري، وبدأت الرؤية الإخوانية تتجلى في صورة أكثر راديكالية. ولكن مركز ثقل عقل الجماعة وضميرها الإصلاحي لم يتردد، عندما بدا أن الراديكالية الفكرية توشك أن تنحو منحى تكفيرياً، في أن يقف موقفاً صلباً ويعيد الجماعة إلى تيار الوسط الإسلامي.
وليس ثمة شك أن نهاية سنوات المحنة في السبعينات تركت اثراً إيجابياً على الإخوان المسلمين، سيما أنهم عادوا إلى المجال العام، وإن بصورة جزئية، والعالم يشهد متغيرات هائلة على صعيد الفكر السياسي والاجتماعي، وعلى صعيد طموحات الشعوب وآمالها. وشيئاً فشيئاً، وبالرغم من تبني الجماعة لفكرة الدولة الإسلامية، الغامضة إلى حد كبير، والتي لم تأخذ في الاعتبار طبيعة الدولة الحديثة واختلافها النوعي مع نموذج دول الإسلام التقليدية، فقد قبل الإخوان الفكرة الديمقراطية، وقيام نظام سياسي تعددي، وأعلنوا عن هذا المنعطف الرئيسي في رؤيتهم السياسية في وثيقة منتصف التسعينات الشهيرة. هذه المرونة والاستعداد للاستجابة لمتغيرات السياق التاريخي ما جعلني أتوقع، في الفصل الأخير من ‘الإسلاميون’، الكتاب الذي صدر قبل عدة سنوات، أن أسئلة مستقبل التيار الإسلامي السياسي تتعلق بموضوعات رئيسية، مثل الدولة الإسلامية، والعدالة الاجتماعية، والعلاقة مع العالم. يومها، لم أكن أتصور، ولا كان غيري، أن المنطقة العربية توشك أن تشتعل بسلسلة من الثورات الشعبية، وأن هذه الثورات ستفسح مجالاً غير مسبوق لاختبار علاقة القوى الإسلامية بشعوبها ودولها، واختبار قدرة هذه القوى على التغيير والمراجعة. والذي حدث، أننا شهدنا في العامين الماضيين، سيما في دول مثل مصر وتونس واليمن وسورية، وليبيا إلى حد ما، أن القوى الإسلامية صمدت بالفعل في اختبار الديمقراطية والتعددية السياسية، وفكرة الدولة المدنية، بالرغم من غموض هذه الفكرة وتباين دلالاتها؛ كما تراجعت بهدوء، وبصورة ملموسة، من خطابهم مقولة الدولة الإسلامية.
هذه، كما كررت مراراً، مجتمعات منقسمة على نفسها، منقسمة من جهة وعيها بذاتها، وعلاقتها بماضيها، وتصورها لمستقبلها، وهي بالتالي منقسمة إلى حد كبير في برامجها السياسية. وليس ثمة شك أن المتغيرات الملموسة في فكر الإخوان المسلمين وخطابهم السياسي، كما في فكر وبرنامج القوى القريبة منهم في خلفياتها في دول عربية أخرى، تمهد الطريق لإعادة بناء إجماع أو توافق اجتماعي سياسي في دول المجال العربي، التوافق الذي يستحيل بدونه بناء مجتمعات حرة، ديمقراطية، ومستقرة. اليوم، وفي الدولة التي شهدت ولادة جماعة الإخوان المسلمين قبل أكثر من ثمانين عاماً، والتي شهدت نمو التيار الإسلامي السياسي ليصبح قوة شعبية مترامية، والتي تركت أبلغ الأثر على تطور أفكار وخطاب وسياسات الإخوان والقوى الإسلامية السياسية الأخرى، ثمة خطر كبير يتهدد مسيرة التوافق والإجماع، خطر يتهدد التقدم نحو الاستقرار وإعادة بناء الاجتماع السياسي على أسس صلبة.
ينبع هذا الخطر ليس فقط من إجهاض التجربة الديمقراطية الوليدة، ولكن، وهذا هو الأهم، من توجهات إقصاء الإخوان المسلمين والقوى الإسلامية السياسية الأخرى، أو التضييق عليهم بصورة تؤدي إلى استبعادهم الفعلي، وليس القانوني بالضرورة، من الساحة السياسية. ولأن توجهات الإقصاء لا تأتي من جهاز الدولة وحسب، بل ومن الشركاء الرئيسيين في الساحة السياسية، مثل الأحزاب والشخصيات الليبرالية وشبه الليبرالية، والشخصيات والأحزاب ذات الخلفية القومية-العربية الديمقراطية، فلا يستبعد ولادة دعوات مراجعة سلبية في صفوف الإخوان، وفي صفوف القوى السياسية الإسلامية المدنية والديمقراطية الأخرى. بمعنى أن تؤدي سياسة الإقصاء والاستبعاد إلى ولادة أيديولوجيا انزوائية، تدفع مجموعات يائسة إلى تبني العنف، أو تصيب عشرات أو مئات الآلاف بالإحباط والاغتراب في الوطن، وعشرات أو مئات آلاف آخرين إلى الهجرة إلى مواطن أخرى.
الإسلام في النهاية هو واحد من أكبر سرديات المسيرة الإنسانية، وكما كل السرديات الكبرى، نشأت عنه في تاريخه الطويل سرديات فرعية، شكلها الموروث والمعاصر معاً، في سياقات تاريخية متغيرة، وبفعل مؤثرات اجتماعية وسياسية لا حصر لها. في لحظات تاريخية معينة، تبرز سردية أو سرديات ما، تغطي على سرديات أخرى، وتصبح الإطار المرجعي والمسوغ لمعايير ورؤى سياسية ما. ولكن هذا لا يعني أن السرديات الأخرى تلاشت كلية أو اختفت. كل ما يتطلبه استدعاء سردية غابرة، في لغة ومفردات جديدة، ليس أكثر من بروز سياق تاريخي موات. مصر اليوم على المحك، ومعها مجال عربي واسع ومزدحم وصاخب بالبشر والأصوات والارتجاجات.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
اريد فقط ان أنوه أن التجربة الديمقراطية الجزائرية قد سبقت التجربة المصرية و كثير من الدول العربية و كان الأجدى ان يتعلم منها كل الأطراف سواء الإسلاميين أو “الديمقراطيين” في مختلف الدول العربية فبعد ما يفوق عن 20 عاما من الإنقلاب على الشرعية الجزائرية و ما خلفته من مآسي و ويلات كان السبب فيها ديكتاترية النظام الحاكم و تطرف بعض المنتسبين للحركة الإسلامية و قد اصبحت هناك قناعة لدى كثير من الجزائريين ان لا أحد باستطاعته ان تسيير شؤون البلاد لوحده فلا الإسلاميين لهم برنامج واضح لحل مشكلات البلاد و لا القائمين على الحكم قادرين ان يسيروها، و خلاصة التجربة الجزائرية اختصرها في نقطتين هامتين و هما :
1- عدم اللجوء إلى العنف من أي طرف مهما كان هذا العنف لفضي او جسدي.
2- مشاركة جميع الفاعلين السياسين و النخبويين في تشكيل خارطة طريق لتسيير البلاد و عدم إقصاء أي طرف.
3- عدم تدخل الجيش في شؤون الحكم.
انا مع التعددية ومع حرية الرأي ومع المقاومة بكل أنواعها وأولها السلمية التي تعني محاججة الرأي بالرأي ولذلك أن ضد الديمقراطية، لماذا؟
لأنَّ الثقافة الديمقراطية هي ثقافة تحقير العلم والعلماء والمقاومة بكل أنواعها وأولها السلمية التي تعني محاججة الرأي بالرأي
الديمقراطية ضد أي تعددية خارج تعددية النخب الحاكمة
الديمقراطية ضد أي حرية للرأي خارج رأي النخب الحاكمة وخصوصا ما يبين عورها
الديمقراطية تتعارض مع أبسط الحقائق العلمية حيث لو اتفق أي مجموعة غالبة في النخب الحاكمة على إعادة تسمية اللون الأبيض إلى اللون الأسود فلا ضير في ذلك أي أن الديمقراطية هي اساس الفوضى الخلاقة بمعنى آخر