أدهشني شاب أردني قابلته مؤخرا على هامش مؤتمر في إسطنبول ليس بموقفه من معركة طوفان الأقصى، فهو يماثل موقف كل الأردنيين، ولكن ما أدهشني هو الأسس والمستندات التي قدمها الشاب وهو حراكي وناشط في الشارع المحلي، وهو يؤسس مقاربة يقول فيها بأن أي ثمن يدفعه في الأردن هو والجميع في إطار الاشتباك مع إسرائيل اليوم ومناصرة المقاومة والشعب الفلسطيني يكاد لا يذكر، ولا يعني شيئا قياسا بحجم التحديات التي برمجتها جريمة الإبادة، أو قياسا بالتضحيات والعذابات التي نقلها الإعلام.
وهذه المقالة حصرا عن ما قاله الشاب، وأحتفظ باسمه لأنه يلاحق قضائيا في عمان جراء نشاطه في مساندة غزة بملفين قيد التحقيق. وسبق له أن أوقف واستدعي واستخدم معه موظفون كل أنماط الترغيب والترهيب والمقايضات، مع أنه شاب يعمل في قطاع منتج، ويعلم مسبقا بأن مصالحه قد تتضرر.
الشاب وهو مهندس في بداية مشواره المهني يتساءل: «شو يعني يستدعيني المحافظ ويبهدلني بكلمتين أو يحجزني في التوقيف شهرين»… هذا السؤال الاستنكاري يتضمن أن ملاحقته قضائيا بتهمتين واحتمالات سجنه وإغلاق شركته وتعطيل مسيرته المهنية، كلها أثمان بخسة ورخيصة، يبدي استعدادا كبيرا لدفعها مقابل من هدم بيته وقتل أطفاله، وتشرد بين الركام جائعا عطشا هائما على وجهه بتفاصيل حياة لا تطاق.
شخصيا لا أعرف لا مسؤولا ولا سياسيا في المشهد الأردني يمكنه أن يساعد في الإجابة على سؤال «شو يعني؟ «. ولا أعرف دربا يمكن أن يقود إلى ترسيم طريقة من جهة السلطة والدولة والقرار للتعامل مع هذا النمط من المجازفة التي قررها شاب ناجح في عمله ولم يتزوج بعد، فقد داهمت 7 أكتوبر كل الأردنيين بصرف النظر عن مكانهم وموقعهم.
أغلب التقدير أن الأردني اليوم مستعد لدفع الثمن والكلفة، وبصيغة لا أحد يمكنه تخيلها بعد بيروقراطيا، مقابل ولو تراكم شعور صغير في وجدانه بأن يتحرك ويفعل شيئا في مواجهة جريمة الإبادة في غزة التي تمسه مباشرة وليس عبر وسيط هذه المرة بكرامة المواطن الأردني وإحساسه بالمستقبل.
الوقائع الشعبية على الأرض تقول بأن ما سمي بالجسر البري الذي يضمن تدفق البضائع بالكيان وتتحكم به علاقات وشركات مع دول عربية أخرى ينظر له كخنجر في خاصرة الشعب الأردني
الإنسان الأردني خائف وحراك الشارع أصله الوقاية والاحتياط وليس التضامن فقط. الأردني اليوم أسقط من حساباته 30 عاما من التطبيع ولم تعد عملية السلام تعني في قياساته أكثر من ورقة يمكن تنظيف أي بقعة متسخة على الرصيف بها.
من قال بأن اتفاقية وادي عربة مجرد ورقة يعلوها الغبار في متحف هو وزير الخارجية وليس الائتلاف الشبابي الأردني المناصر للمقاومة. ومن أعلن بأنه «أخطأ» في عبارة «دفنت الوطن البديل» هو من وقع تلك اتفاقية وادي عربة قبل رحيله.
نعم الأردني قلق على المستقبل ليس لأنه لا يثق بمؤسساته، فهي تحظى باحترام شديد بل قلق وخائف على تلك المؤسسات من أن يستهدفها لاحقا ذلك المد اليميني المتطرف الإيديولوجي الذي يصل كالحبل السري مجانين تل أبيب بموتوري واشنطن.
في ظل طوفان الأقصى وجريمة الإبادة وبشاعتها لم تعد ثمة قيمة ولو صغيرة لعملية السلام والتطبيع أو لتلك العلاقة المزعومة دوما مع ما يسمى بدولة الكيان العميقة التي التهمها برمتها إرهابي بلطجي متطرف حتى بتوصيف القضاء الإسرائيلي اسمه إيتمار بن غفير.
القواعد العسكرية الأمريكية التي قيل إنها مفيدة وتضمن أمن واستقرار المنطقة لم تعد كذلك بالنسبة لعقل الأردنيين بعدما زودت القيادة الوسطى سلاح الجو الإسرائيلي بقنابل من وزن 2000 رطل، التهمت لحم الأطفال والنساء والعجزة في مستشفى المعمداني. العلاقات الأردنية الأمريكية لم تعد ضامنة لمستقبل دولة الأردنيين الخائفين على مؤسساتهم. كل ما قيل ويقال عن منع التهجير تصادق الأدلة على الأرض على عكسه.
طبيعة الجريمة الإسرائيلية ليس من النوع الذي يسمح بالصفح أو الغفران أو حتى بالسلام بعد الآن.
الوقائع الشعبية على الأرض تقول بأن ما سمي بالجسر البري الذي يضمن تدفق البضائع بالكيان وتتحكم به علاقات وشركات مع دول عربية أخرى ينظر له كخنجر في خاصرة الشعب الأردني اليوم.
ارتفاع حجم الصادرات للكيان يرتاب به الناس الذين يؤمنون بأن الفكرة الأردنية برمتها بنيت على أساس تلك العبارة الساحرة للقاضي الشيخ طراد الفايز… «نضع حجرا على البطن ونجوع من أجل قيادتنا ودولتنا والأردن نؤمن به».
الخلاصة تغيرت المعطيات يا قوم وما قاله الشاب المشار اليه يستحق «خطوة تنظيم».
إعلامي أردني من أسرة «القدس العربي»