لم يعد هناك مجال للشك بأن منصات الإعلام الاجتماعي في معظمها، ووفق تداعيات الأمور في أمريكا، وما دار من سجال بين تلك المنصات والرئيس ترامب، وما يرشح يومياً من دراسات وأبحاث، إنما تشكل، أي تلك المنصات، المساحة الأهم للعب في عالم السياسة والتجسس على حياة الناس وتفاصيلها. وعليه فإن هذا المقال ليس بمثابة الدعوة لهجران تلك المنصات، وإنما لترشيد وعقلنة استخدامها وإعلام الناس بخفاياها، لكن كيف؟
توقف العالم العربي بفعل مصائبه المتلاحقة، خاصة في العقود الأخيرة من الزمن، عن إنتاج المعرفة، وبات كما غيره من شعوب الأرض مستهلكا لنتاجات العالم في عصر العولمة. ومع تصاعد الاهتمام بالإنترنت فقد فاق حجم الإقبال عليها ذاك الإقبال الذي حازته تقنيات الكهرباء والهاتف والتلفزيون والمذياع عند ولادتها وانتشارها.
وإثر ملله المطبق من وسائل الإعلام التقليدية، وما تطرحه من لغة خطابية متكلسة وتمجيد للزعماء، توجه العالم نحو الإعلام الاجتماعي بنهم كبير، يبحث من خلاله عن مساحة أكبر من الحرية والتعبير، من دون ضبط أو قيد. ومع تنافس الشركات على إنتاج تطبيقات متلاحقة تعود بالدخل الكبير على أصحابها، ازداد التصاق الناس بأجهزتهم بمجموع ساعات قد يصل إلى 15 ساعة يومياً، فيما أفضى إلى ولادة ما يعرف بالتوحد الرقمي. ومع تنوع المنصات المختلفة ومحتوياتها وجمهورها المستهدف، فقد انضم الأطفال وكبار السن بصورة متصاعدة لتلك التطبيقات، فقلص البعض ما عرف بالهوة الرقمية وأصبحت تفاصيل الحياة مرهونة بالتكنولوجيا الحديثة. وأمام مساحات الحرية المزعومة فقد انطلق الناس في التبرع السريع بمعلومات تفصيلية عن يوميات حياتهم الشخصية، ودقائق علاقاتهم الاجتماعية وميولاتهم المختلفة بصورة سهلت للأجهزة الاستخبارية تكوين ملفات متكاملة لجميع الأشخاص، محل الاهتمام، كما فتحت تلك البيانات شهية الشركات نحو بيع المعلومات الشخصية للشركات الأخرى على اختلافها، لتحديد المزاج العام وطبيعة الترفيه والتسلية والنشاطات الاجتماعية والاهتمامات الغذائية، التي تستهوي الناس في كل مجتمع، وهو ما يسهل طبيعة ما يمكن أن تسوقه المؤسسات والشركات القطاعية لهذا المجتمع أو ذاك، وهو ما عزز ولادة علم متسع يحمل اليوم اسم البيانات العظيمة المعروف بـ»بيج داتا».
وقد عزز التصاق الناس بوسائل الإعلام الاجتماعي مفاهيم التواصل المباشر والترويج المستدام للمنتجات والسلع والأفكار، وحتى الفكر الديني العقائدي، إضافة إلى التمازج الثقافي والاطلاع العام، والدخول إلى المجتمعات، وصولاً إلى الإسقاط الأمني والجنسي، وترويج الجريمة الإلكترونية، وتكوين العصابات الرقمية لأغراض عدة.
أصبحت منصات الإعلام الاجتماعي تشكل المساحة الأهم للعب في عالم السياسة والتجسس على حياة الناس وتفاصيلها
وإثر تنامي الرغبة نحو تغيير أفكار الناس واستمالتها نحو الفكر العقائدي المتشدد، أو الجريمة المنظمة، أو حتى الإطاحة بقيمها، فقد ساهمت الألعاب الرقمية العنيفة في توسيع نهج الانتقام لدى البعض، واعتبار مفاهيم القتل والتدمير وكأنها جزء مقبول من الحياة اليومية، وهو ما ساهم ويساهم في تدمير منظومات القيم وتفكيك المجتمع، وتجاوز حرمة البشر وكسر المحرمات. وبذلك أصبح دور عملاء أجهزة التجسس سهلاً جداُ وباتت قدرتهم على الاختراق لخصوصيات الناس أكثر سهولة، وهو ما شجع أجهزة الاستخبارات على استحداث وحدات رصد متخصصة بالإعلام الاجتماعي، تمارس كل الأدوار التي تعتبرها هي مهمة لحماية أمن الدولة وسيادتها. وقد تعزز هذا الجهد عبر انتحال ضباط الاستخبارات العالمية على اختلافها لشخصيات مختلفة بهدف توسيع بنك معلوماتهم وتحصيل ما يريدونه من بيانات، حتى وصل الأمر في بعض الأحيان إلى الابتزاز الممنهج.
ومع ازدهار تطبيقات الهواتف المحمولة، وتخصصاتها وخدماتها، فقد أصبحت السمة الشائعة بين الناس في العالم هو سرعة القبول بشروط تلك التطبيقات بدون قراءتها والتمعن فيها، حتى ان معظمهم لا يعرف بأن تلك الشروط في معظمها قد عززت استباحة خصوصية الأفراد، عبر الوصول الكامل إلى ذاكرة هواتفهم وسجل مكالماتهم، وسجلات هواتف معارفهم، إضافة إلى تفعيل كاميرا أجهزتهم ولاقط الصوت وهو ما يسهل عملية الرصد بالصوت والصورة.
وبهذا وجدت إسرائيل وغيرها من الدول المعتاشة على التجسس وسيلة أكثر سهولة لاختراق خصوصية الناس وحوسبة كاملة لتفاصيل حياتهم وتحديد مواقع تواجدهم واستباحة أسرارهم. وقد تطورت قدرات إسرائيل في ذلك المجال حتى وقّعت مع البعض من شركات الإعلام الاجتماعي بروتوكولات وصفت بأنها تعاونية، لكنها بالواقع بروتوكولات أمنية تغطي محاور عدة، أهمها مكافحة الإرهاب، وبذلك تجاوزت القدرات الاستخبارية الإسرائيلية، جمع المعلومات وصناعة الخطط وفق وسائل الرصد والإسقاط، لتصل إلى تعزيز إمكانات الحجب والإزالة للمنشورات والبيانات، ليس عبر كلمات مفتاحية يكتبها أصحابها فقط، وإنما عبر التدخل المباشر لحجب المنشورات والطرد من منصات الإعلام الاجتماعي تحت ذرائع مختلفة. وعليه فإن قدرات إسرائيل في وسائل الإعلام الاجتماعي كما غيرها باتت متزايدة ومتصاعدة ومتعددة المواصفات والآفاق.
لهذا فإن الحذر مطلوب لتجنب القلق وحسن التعامل مع ما ينشر، إضافة إلى أهمية توعية أبنائنا وأسرنا وتنبيههم بغرض تمكينهم من اتخاذات الإجراءات الحكيمة، بحيث تزداد مساحة الوعي المجتمعي للتعامل مع تكنولوجيات لم نبتكرها نحن، ولم نساهم بالاطلاع على خفاياها إلا ما ندر.. الحذر والتبصر لا القطيعة والابتعاد هو القرار الأكثر حكمة، خاصة أن أهمية الإنترنت في حياة البعض باتت تتفوق على أهمية الخبز.
كاتب فلسطيني