لماذا كثرت عثرات الجزائر الدولية هذه الأيام؟

حجم الخط
0

متابعة الحدث السياسي الدولي المرتبط بالجزائر في الشهور الأخيرة، يخبرنا من دون كبير عناء، أن البلد عاش عدة كبوات لم يتعود عليها في مساره السياسي القريب، وهو يحاول تدشين مرحلة ما بعد الحراك التي عاشت فيها مؤسسات النظام هزة عميقة، يبدو أنها لم تتعاف منها لحد الآن. قائمة طويلة يمكن سردها لإثبات هذا التعثر، بدءا من رفض انضمام البلد إلى منظمة البريكس، رغم التطمينات الكثيرة التي قدمها الخطاب الرسمي في أعلى مستوياته.. الفشل في احتضان تنظيم الكأس الافريقية المقبلة لكرة القدم، يمكن عده هو الآخر كبوة أخرى، بما تمثله هذه الرياضية الشعبية من اهتمام على مستوى الرأي العام، نتيجة المبالغة في استعمالها كمنوم لفئات واسعة من الجزائريين، سيتأثرون بكل تأكيد بهد الإقصاء، الذي لن يفهم من قبلهم، في وقت يبذل فيه البلد مجهودات كبيرة للانتهاء من بناء العديد من الهياكل القاعدية الرياضية في وقت قياسي، كان يمكن أن تؤهله بسهولة لاحتضان هذه الدورة، لولا العجز في الدفاع عن الملف من قبل هذه «النخب» الممثلة للدبلوماسية الرياضية، التي فهمت تمثيل البلد، كونه سفريات ومنح إقامة في الفنادق الدولية، مدفوعة بالعملة الصعبة، في الخارج لوجوه رياضية، تبين بشكل سافر وهي تقدم ملفاتها للترشح لرئاسة فيدرالية كرة القدم، أنها في الغالب لم تتجاوز المرحلة الابتدائية من التعليم، ليتم إفراغ انتخابات هذه الهيئة الرياضية الوطنية من أي رهان جدي، كان يمكن أن يكون بداية إصلاح لهذا البيت الرياضي الوطني الكبير.
ملفات سياسية أخرى يمكن سردها، لإثبات هذا التعثر الذي تعانيه الدبلوماسية الجزائرية، منها على سبيل المثال، الصورة الباهتة التي ظهرت بها القمة العربية التي احتضنتها الجزائر السنة الماضية، على مستوى الحضور الرسمي العربي على الأقل، كان مؤشرا واضحا، لم تقم الدبلوماسية الجزائرية بقراءته بالشكل المطلوب، لتجد نفسها محاصرة سنة بعد هذه القمة، بقطار التطبيع على كل حدودها تقريبا، زيادة على المأزق الذي تعيشه الملفات السياسية المهمة بالنسبة للبلد، كالمصالحة في دولة مالي التي يبدو أنها عادت إلى نقطة الصفر، رغم الاستنزاف الطويل الذي عانت منه الدبلوماسية الجزائرية في تعاملها مع هذا الملف الحساس، والمهم بالنسبة للجزائر، بالإضافة إلى اللامبالاة الغريبة التي قوبلت بها مبادرة الجزائر في ما يتعلق بأزمة النيجر، المهمة هي الأخرى بالنسبة للجزائر أمنيا وسياسيا، في منطقة الساحل الملتهبة، في وقت تعيش فيه الجزائر حصارا شبه كلي على كل حدودها الطويلة.

جمود من جهة وتغير سريع من جهة أخرى أوصل الدبلوماسية الجزائرية للظهور بمظهر «الدبلوماسية المثالية»، البعيدة عن الواقع، بموازين قوته وصراعاته على الأرض التي لا تتحكم ولا تؤثر فيها

ملفات يمكن إضافة موضوع المصالحة الفلسطينية، التي عوّلت عليها الجزائر لإنجاح مؤتمر القمة العربي، بما يمكن أن يساهم فيه من عودة للدبلوماسية الجزائرية إلى منطقة الشرق الأوسط المأزومة، بملفاتها الثقيلة، التي ابتعدت عنها الجزائر لمدة طويلة، عندما كانت منشغلة بأمورها الداخلية. المتابع الجيد لكل هذه الملفات المتعثرة التي واجهتها الدبلوماسية وهي تتعامل معها، يمكن أن يجد خيوطا مشتركة تفسر ما حصل، يمكن اختصاره في الجمود العقائدي الذي سيطر على الدبلوماسية الجزائرية وشلً فعاليتها في عالم سريع التغير.. جمود من جهة وتغير سريع من جهة أخرى أوصل الدبلوماسية الجزائرية للظهور بمظهر «الدبلوماسية المثالية»، البعيدة عن الواقع، بموازين قوته وصراعاته على الأرض التي لا تتحكم ولا تؤثر فيها.. دبلوماسية لم تنجح في القيام بتجسير العلاقات بين أجيالها المختلفة، داخل مؤسساتها، كما تبينه حالة الحضور الجزائري الباهت في المؤسسات الإقليمية بالشكل الذي ظهرت به في حالة الكونفدرالية الافريقية لكرة القدم، التي فشلت فيها «النخبة الرياضية « في الدفاع عن ملف الجزائر، أو الحصول على موقع داخل الهيكل القيادي لهذه المؤسسة الافريقية التي غابت عنها الجزائر.
لتفسير هذه الكبوات، قد يكون المطلوب منا، التعمق في قضية صناعة واتخاذ القرار المتعلق بالسياسة الخارجية، التي ما زال الدبلوماسي المهني بعيدا عن الحضور داخلها بالقوة المطلوبة، والى عملية التوظيف التي ما زالت سجينة الشللية، ومنطق المحاصصة العائلية، التي بدأت بعض مظاهرها في البروز على شكل حضور عائلي وجهوي محدد، على مستوى المراكز الدبلوماسية المهمة وبيروقراطية وزارة الخارجية. ناهيك عن غياب مراكز التفكير والاقتراح التي كان يمكن أن تساهم في عملية التجديد العقائدي المطلوبة، لإثراء القاعدة الفكرية لهذه الدبلوماسية التي استمرت تنهل من الفكرة الوطنية القديمة، من دون تجديد وهي تعيش حالة تكلس فكري، يصعب أن تعتمد في الخروج منها على الجامعة الجزائرية التي تعيش فراغا علميا رهيبا، لا يؤهلها للقيام بأي جهد في هذا الميدان. تاركة المجال مفتوحا لما تجود به الجامعات، ومراكز البحوث الأجنبية التي تحولت أمام هذا الفراغ إلى قوة اقتراح وتوجيه ناعم، لا بديل عنها بالنسبة للدبلوماسي الجزائري، وصاحب القرار الذي يريد أن يقرأ ويطلع، ليقرر لاحقا.
الجزائر التي تمكنت في وقت سابق من إنتاج نواة دبلوماسية فاعلة، وذات نوعية انتجتها مؤسسات البلد المختلفة عبر تاريخها السياسي، منذ سنوات الاستقلال الأولى وحتى قبل ذلك، من دون أن تتمكن دائما من فرض وجودها نتيجة حالة الاضطراب التي مرّت بها مؤسسات الدولة الوطنية، كما عبرت عنها حالة عدم الاستقرار على مستوى الحكومات، بما فيها وزارة الخارجية التي تعاقب عليها 18 وزير خارجية منذ الاستقلال في 1962 لغاية 2023، بمعدل ثلاث سنوات فقط وبعض الأشهر للوزير الواحد – توفي اثنان منهما بشكل عنيف – لم يكونوا كلهم من أصحاب الخلفية الدبلوماسية. لم يتمكنوا بالتالي في الغالب، من فرض وجودهم على مستوى المحافل الدولية، خلال هذه المدة القصيرة من بقائهم على رأس موقعهم الوزاري، الذي نصبوا فيه كعربون ولاء لبوتفليقة – الشخص، خلال فترة حكم هذا الرئيس الدبلوماسي، التي وصل فيها العبث لدرجة تعيين وزيرين اثنين لقيادة الخارجية، داخ السفراء الأجانب مع من يتعاملون معه!؟ في وقت كان المطلوب فيه تثمين ما هو موجود من مؤهلات دبلوماسية وطنية، وفتح مؤسساتها على النخب الوطنية المختلفة ذات الخبرة ـ بما فيها المهاجرة خارج البلد من خلال مؤسسات تفكير واقتراح تكون السند للعمل الدبلوماسي الرسمي، بروافده المعروفة كتلك التي تكون من اختصاص البرلمان والإعلام وكل مصادر القوة الناعمة التي يمكن أن تتوفر في البلد.
كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية