لماذا لا يرد المغاربيون جماعيا على إهانات فرنسا لهم؟

حجم الخط
29

يخطئ من يظن أن الجزائر وحدها المقصودة بالقرارات والتصرفات الفرنسية الأخيرة، فالمسألة أكبر من أن تكون أزمة ثنائية بين البلدين. ومع أن الوقت لم يحن بعد لأن تختار الدول المغاربية الخمس، مفوضا مغاربيا للشؤون الخارجية يتحرك باسمها ويخاطب العالم بالنيابة عنها، فإنه من المعقول جدا، رغم ذلك أن يفكر المغاربيون بالحد الأدنى، وهو أن ينسق لا قادتهم فقط، بل مفكروهم وصناع الرأي في بلدانهم في توحيد مواقفهم من بعض القضايا التي قد لا تخص أحداً منهم دون الآخر.
ومن المؤكد أن تحقيق ذلك سيعد أكبر إنجاز لهم، لكن من هنا إلى ذلك الحين، هل يبقى الدور فقط على المؤرخين الجزائريين، حتى يتحركوا ويخرجوا سجلاتهم من الإرشيف؟ أم أن على المسؤولين السياسيين وغير السياسيين في المنطقة كلها، أن يبادروا بالرد جماعيا، وأخذ قرارات موحدة في حق الدولة التي اعتدت على تاريخهم، ولا تزال مستمرة إلى اليوم، وربما حتى الغد أيضا؟
ربما كان من المفيد أن يعيد مجلس الأمة الجزائري، في سياق رده على التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي، التذكير بأن «جزائر ما سينيسا وأبي مدين الغوث وأحمد المغيلي والشيخ آمود ولالة فاطمة نسومر والشيخ الحداد والأمير عبد القادر … وغيرهم الكثير، أرض العزة والمكانة والشهامة، لم تنبعث من العدم، وان الجزائريات والجزائريين ليسوا بحاجة لشهادات هؤلاء، ولا لغيرهم حينما يتعلق الأمر بتاريخ بلدهم العريق الضارب في أعماق التاريخ». لكن هل سيكون درس التاريخ كافيا؟ وهل سيفهم الطرف المقابل بمجرد اكتشافه سيرة تلك الشخصيات، المغزى من وراء الاستدلال بها اليوم؟ أليس الأجدى من ذلك توسيع الدائرة لتشمل باقي المغاربيين، مؤرخين وغير مؤرخين؟ فحتى إن لم يكن باستطاعة وزراء خارجية الدول المغاربية الثلاث، اي تونس والجزائر والمغرب، أن يقولوا معا وبصوت واحد لفرنسا ما قاله وزير الخارجية الفرنسي جان أيف لودريان قبلها بأيام، أي عند تفجر أزمة صفقة الغواصات الفرنسية: «حصل كذب، حصلت ازدواجية، حصل تقويض كبير للثقة، حصل ازدراء، لذا فإن الأمور بيننا ليست على ما يرام». واختار كل واحد منهم إما التعبير بكلمات أقل حدة عن قلقه من تصرفات باريس، ومن تعاملها مع بلاده في أكثر من مسألة، أو اكتفى بالصمت وكان اتفاقهم على شكل موحد للاحتجاج ضدها من سابع المستحيلات، فإن تكرار المحاولات في ذلك الاتجاه وبطرق أخرى، من خلال تحريك المنظمات والهيئات المدنية المغاربية، لن يكون بلا طائل، بل يمكن أن يمثل فرصة لإعادة تجميع الشتات المغاربي ولملمته من جديد. فالعدو في هذه الحالة واضح ولا نزاع حوله. لكن إن سألنا من يلقي باللائمة على الرئيس الفرنسي في تعكير العلاقات بين تلك الدول وفرنسا، عما يحتاجه ماكرون حتى يعدل بوصلته هل لدرس في التاريخ؟ أم لدروس في الدبلوماسية؟ فإننا سنظفر بأكثر من رد، حسب تعدد المآخذ عليه، فهو في نظر الجزائريين، قام «باعتداء غير مقبول على ذاكرة ما يقرب من ستة ملايين شهيد ضحوا بالنفس والنفيس في مقاومتهم البطولية ضد الغزو الاستعماري الفرنسي، وكذا في حرب التحرير الوطنية المباركة» وفقا لما جاء في نص بيان أصدرته الرئاسة الجزائرية. وهو بنظر المغاربة قد يكون أخلّ من خلال قراراته الأخيرة حول تقليص عدد التأشيرات الممنوحة لهم، بالحس والمنطق السليمين وأقدم على اتخاذ إجراء «غير مبرر» كما وصفه وزير الخارجية المغربي تجاه بلده. غير أن السؤال هنا هو، ما الذي جعل الرئيس الفرنسي يرتكب كل تلك السقطات التاريخية والدبلوماسية بحق الدول المغاربية؟ هل فعل ذلك ليعيد الاعتبار ولو رمزيا لكرامة فرنسا التي ديست قبل أيام في أستراليا؟ أم لأنه لا يزال يعتبر المنطقة المغاربية مستعمرة تابعة لبلاده، أو منطقة نفوذ تخصها وحدها، ويرى أن الشمال الافريقي لا يمكنه أن يدور في غير الفلك الفرنسي؟ أم لأنه بات يشعر بأن الوجود الفرنسي والمصالح الاقتصادية والثقافية لباريس هناك باتت مهددة بشكل كبير؟ لا شك بأن الطريقة التي تعاملت بها السلطات الفرنسية مع العواصم المغاربية في أكثر من ملف باتت تطرح أكثر من سؤال.

يخطئ من يظن أن الجزائر وحدها المقصودة بالقرارات والتصرفات الفرنسية الأخيرة، فالمسألة أكبر من أن تكون أزمة ثنائية بين البلدين

ومن ساوره ولو بعض الشك في صدقية ما قرأه السبت الماضي في أعرق صحيفة باريسية، أو كان يبحث للرئيس الفرنسي عن مبرر كلاسيكي يدافع به عن نفسه، كان يتوهم مثلا بأن كلامه ربما يكون قد أخرج عن سياقه، أو اجتزئ ولم ينقل بشكل تام وأمين، ما جعله ينحرف عن القصد فقد أخبرته «لوموند» الاثنين الماضي في أحد تقاريرها، أن التصريحات التي نقلتها قبل يومين، ونسبتها لماكرون خلال حديثه في وقت سابق في مأدبة غداء مع شبان من أصول جزائرية «بدت مدروسة بعناية مع نية واضحة لنقلها». لكن ما الذي يعنيه ذلك؟ هل يعني فقط أن «العلاقة الشخصية بين الرجلين أي ماكرون والرئيس تبون فشلت في التغلب على أعباء النظام السياسي العسكري الجزائري» كما أضافت الصحيفة، أو أن «قسوة تصريحات الرئيس الفرنسي تعبر عن خيبة أمله، بعد أن عمل منذ توليه السلطة من أجل مصالحة الذاكرة مع الجزائر، لكن خطواته لم تلق الترحيب في العاصمة الجزائر، وانتهى به الأمر إلى إدراك أن محاوريه لم يكونوا قادرين على فعل الكثير، ويشهد تصريحه عن «النظام السياسي العسكري» على هذا الفشل الدبلوماسي، كما نقلت عن مصدر مقرب من ماكرون؟ بغض النظر عما إذا كانت تلك التفسيرات دقيقة أم لا، فإن تزامن مثل تلك التصريحات مع قرار السلطات الفرنسية بالتخفيض في عدد التأشيرات الممنوحة للرعايا المغاربيين، يجعل الأمر أبعد من أن يكون مجرد غضب أو توتر في علاقة رجلين، هما الرئيس الفرنسي ونظيره الجزائري، بل يتعداه إلى تحول واضح في لهجة باريس، لا مع الجزائر فحسب، بل مع باقي الدول المغاربية الأخرى أيضا، وفي المقابل فإنه لم يكن من العبث أو الصدفة أن تتلون اللوحة المغاربية بأكثر من لون، وان يبدو فيها الجزائريون غاضبين والمغاربة منزعجين والتونسيون آسفين في الوقت نفسه معا. واختلاف ردات أفعالهم على حدث واحد يعنيهم جميعا، قد يكون أهم من البحث عن الأسباب التي دفعت باريس الثلاثاء قبل الماضي لأخذ ذلك القرار بالتخفيض في عدد التأشيرات الممنوحة لهم، لكن ما الذي كان سيحصل لو أن علاقات تلك الدول بعضها ببعض كانت تسمح لها، وفي الحد الأدنى على الأقل، بأن لا تختلف على طريقة الرد، على تهديد مشترك يطالها، هل كانت فرنسا ستجرؤ حينها على مجرد التفكير في إهانة أي بلد مغاربي؟ قد يكون التفكير في ذلك أبلغ بكثير من العودة إلى دروس التاريخ التي لن يقرأها الفرنسيون، ولن يتعلم منها وللأسف الشديد معظم المسؤولين المغاربيين الذين يتغنون بها من حين لآخر.
كاتب وصحافي من تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول زينو:

    انصحكم التعلم من موقف دولة مالي ان كانت مواقف الجزائر لا تروق لكم

  2. يقول تاوناتي:

    احيي الكاتب على تركيزه داءما على ذكر ” الدول المغاربية الخمس”..هذا هو مربط الفرس..فعندما تتوقف الجزاءر عن محاولات جعلها ” الدول المغاربية الست”.سيفهم ماكرون و اسبانيا و الغرب، بأن المغاربيون قرروا ان يتكلموا بصوت واحد.و ان الفتنة وؤدت..

  3. يقول عبد الكريم البيضاوي:

    لا أظن هناك داعيا للرد سواء بالنسبة للمغرب أو تونس, الرئيس الفرنسي كان مركزا في حديثه عن الجزائر فقط , أما عن تقليص التأشيرات للمغاربيين , فالسؤال : “ من سيتأثر بالعملية ؟ ليست الطبقات العليا في المجتمعات بالطبع , ومن المدافع عن حقوق الطبقة الوسطى في العادة ؟ لاأدري.

    أما وأن فرنسا غضبت بمافيه الكفاية في قضية الغواصات فلأن الثمن باهضا والخسارة كبيرة كما هو معروف, عشرات الملايير من اليوروهات ذهبت مهب الرياح. ضربة قوية طبعا ومنها ردة الفعل .

    الحرب الكلامية عادية بين الدول من حين لآخر, بالطبع يجب تقييمها , لكن ليس في كل مرة يكون الرد على الكلام حلا. أما المغرب وتونس – برأيي – لاداعي لغضبهما أو الرد على ردة فعل بالنسبة لفعل كما تشتكي الدول الاسكندنافية كذلك عن عدم رغبة الدول في استقبال مواطنيها العالقين لديها.

  4. يقول Ahmed HANAFI اسبانيا:

    يا كاتبنا العزيز! نشكرك على مقالاتك، ونحترم رأيك لكننا لا نشاطرك اياه.
    المنطق والمصلحة يقتضيان أن نكون معا في خندق واحد، ضد كل الأعداء وليس ضد عدو واحد دون غيره.
    ليست فرنسا وحدها من يبتز بلداننا ويهين شعوبها ويستغل خيراتها.
    إذا كانت فرنسا قد اهانت الجزاير اليوم، فإن اسبانيا تحتل منذ قرون، أراضي مغربية. فهل رفعت تونس مثلا، صوتها مرة واحدة لإدانة هذا الاحتلال؟.

  5. يقول عبد الوهاب عليوات:

    قال ماكرون يريد تحرير الجزائر من نظامها العسكري قال..
    مثل هذه الخزعبلات هي التي حطمت العالم العربي والاسلامي.. المستعر يحررك من قواك التي تدافع بها ويعطيك ما بسميه الحضارة لاجل ان تبقى تحت حذائه تقلد فكره وتخضع لسلطته غلى ان تقوم بتكوين جيش قوي يحررك

  6. يقول زينو:

    كان الاحرى ان يكتب المقال بعنوان لماذا لم يكن يرد الدول المغاربية بمستوى رد الجزائر

  7. يقول قاسم اربد:

    لا زال الغرب اللعين وامريكا الظالمة والصهيوتية النتنة بالاتفاق فيما بينهم للعودة لاستعمار الأمة العربية من جديد او أنها لا زالت مستعمرة ويتقاسموا بينهم الادوار امريكا تسيطر تماما على دول الخليج والاردن والعرق ووزعت دورا للكيان الصهيوني في فلسطين وفرنسا المجرمة تحاول لي ذراع الجزائر والمغرب تونس وليبيا مصر ليصبحوا تحت تصرفها وسوريا لروسيا واسفاه على الأمة.

  8. يقول هيثم:

    شخصيا كنت أنتظر أن ينعقد مجلس الأمن الجزائري لاتخاذ القرارات المناسبة للرد على تصريحات ماكرون

  9. يقول غزاوي:

    1- لكن هل سيكون درس التاريخ كافيا !!!؟؟؟
    قطعا لا، وما أغضب ماكرون وجعله يفقد ذاكرته وأعصابه ليست جعجعة الجزائر أو دروس التاريخ، بل طحين غير مألوف لديه، وما استطاع بلعه عسر عليه هضمه.
    الجزائر بدأت تتحرر من فرنسا اقتصاديا وبدأت تطرد مؤسساتها، وأخر قراراتها سحب السفير وغلق الأجواء على طائراتها، ولا يستبعد قطع العلاقات معها إن تمادت في تصرفاتها.
    2- لماذا لا يرد المغاربيون جماعيا على إهانات فرنسا لهم؟
    بسبب ما سلف ذكره ويرفض المغرب وتونس فعله.

  10. يقول عبد الرحمان مبروك الجزائر:

    شكرا جزيلا أستاذ فعلى الأقل إن لم يتحرك الساسة فعلى المثقفين والمفكرين وتعيين التحرك ولعل ردهم أفيد وأبلغ

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية