لا أريد أن أبدو هنا وكأنني أدافع عن أمريكا وأبرئ ساحتها وأتغاضى عما فعلته ببلاد كثيرة على مدى عقود وعقود، فهذا مكشوف للقاصي والداني ولا يمكن أن يتجاهله أحد، لكن، في الوقت الذي نعاين فيه التدخلات الأمريكية في العديد من مناطق العالم وآثارها الكارثية على الأمم والشعوب والدول، لا بد أن ننظر بالعين الثانية إلى البلدان التي لم تكن تحلم في يوم من الأيام أن تصل إلى قمة المجد التكنولوجي والاقتصادي والمالي والحضاري من دون العون الأمريكي، بدءا بأوروبا وانتهاء بالصين.
ولو عدنا أولاً إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت بتدمير بلدان أوروبية عدة وإنهاكها على كل الأصعدة، ونظرنا إلى الدور الأمريكي في مساعدة تلك البلدان وانتشالها من تحت ركام الحرب، لتأكدنا أن الغرب الأوروبي لم يكن ليستعيد عافيته وقوته مطلقاً لولا «مشروع مارشال» الأمريكي الشهير الذي وضعته واشنطن للنهوض بأوروبا وإعادة إعمارها بعد خروجها من الحرب منهكة تماماً. وقد خصصت أمريكا وقتها عشرات مليارات الدولارات لإعادة تشغيل الاقتصاد والمصانع الأوروبية وانتشال الأوروبيين من قاع الفقر والبطالة. وهو مبلغ خيالي بمقاييس اليوم. وقد استنتج المؤرخ الاقتصادي البلجيكي هيرمان فان دير وي أن مشروع مارشال حقق «نجاحاً باهراً، وأعطى زخماً جديداً لإعادة الإعمار في أوروبا الغربية، وقدم إسهاماً حاسماً في عملية إعادة تجديد نظام النقل وتحديث المعدات الصناعية والزراعية، إضافةً إلى استئناف الإنتاج الطبيعي وزيادة الإنتاجية وتسهيل التجارة البينية الأوروبية».
وقد يتنطع البعض للقول هنا إن «مشروع مارشال» جاء لإنقاذ شركاء أمريكا المسيحيين في الغرب، وهو بالتالي قائم على أساس ديني أو عقدي، لكن هذا الكلام سخيف جداً، وتدحضه المشاريع الأمريكية اللاحقة لمساعدة الصين واليابان وكوريا الجنوبية وهي بلدان غير مسيحية. ولو أخذنا الدعم الأمريكي للصين لاستنتجنا أنه لولا أمريكا لما تقدمت الصين مطلقاً تكنولوجياً واقتصادياً ومالياً، فقد كان لنقل المصانع والتكنولوجيا الأمريكية إلى الصين دور هائل في نهضة الصين الصناعية، حيث استفاد الصينيون كثيراً من الخبرات الأمريكية أو ما يسمى بالإنجليزية بـ«النو هاو». هل كان للصين أن تصبح قوة تكنولوجية عملاقة لولا أمريكا؟ بالطبع لا. وعندما نقلت أمريكا مصانعها وخبراتها إلى داخل الصين، فلا شك أنها كانت تعلم علم اليقين أن الصينيين سيتعلمونها وسيستفيدون منها لاحقاً لبناء قوة تكنولوجية وصناعية عظيمة. ولو كانت واشنطن تخشى من نهوض التنين الصيني تكنولوجياً وصناعياً ليصل إلى ما وصل إليه اليوم لكانت قد فكرت ألف مرة قبل أن تنقل خبراتها ومصانعها إلى الصين في المقام الأول.
لولا أمريكا لما تقدمت الصين مطلقاً تكنولوجياً واقتصادياً ومالياً فقد كان لنقل المصانع والتكنولوجيا الأمريكية إلى الصين دور هائل في نهضة بكين الصناعية
ولا ننسى أن أمريكا لم تساعد الصين تكنولوجياً فقط، بل منحتها أيضاً أفضل المميزات والحوافز التجارية، بحيث فتحت لها أسواقها لتستقبل كل أنواع السلع والمنتوجات الصينية، بحيث تندر الصحافي الأمريكي الشهير توماس فريدمان قائلاً: «حتى العلم الأمريكي الذي يرفرف فوق البيت الأبيض صناعة صينية». لا تقل لي إن الصين خدعت أمريكا وعملت بالقول الدارج: «أعلمه الرماية كل يوم، فلما اشتد ساعده رماني». لا لا أبداً، فالأمريكيون لا يتصرفون بعشوائية، بل يضعون خططاً لعشرات السنين المقبلة قبل أن يقدموا على أي خطوة، لا بل إن المفكر الأمريكي الآخر جورج فريدمان في كتابه «المئة سنة القادمة» يعترف بأن أمريكا هي من صنعت الصين، وأن الصين ضرورة استراتيجية لأمريكا، وأنه لو تعرضت الصين لأي هزات خطيرة فستسارع أمريكا إلى نجدتها فوراً، وهذا ينسف كل الكلام عن الصراع الأمريكي الصيني على قيادة العالم، حسب فريدمان.
ولا ننسى أنه في الوقت الذي دعمت أمريكا الصين في كل المجالات، فقد دعمت أيضاً خصم الصين التاريخي، ألا وهي اليابان لتكون سداً منيعاً إلى جانب أمريكا فيما لو حاولت الصين ذات يوم التمرد على صانعها الأمريكي. وهذه طبعاً استراتيجيات القوى العظمى التي لا تعتمد فقط على النوايا، بل تعرف كيف تستشرف المستقبل وتضع الخطط المناسبة لمواجهة أي تطورات محتملة.
ولو عدنا إلى الدعم الأمريكي لليابان لوجدنا أنه بالرغم من إلقاء أمريكا أول قنبلة ذرية على هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، إلا أن ذلك لم يمنعها لاحقاً من الأخذ بيد اليابان وانتشالها من تبعات الحرب، فوضعت لها حتى قوانين الاستصلاح الزراعي، كما وضعت لها أنظمة اقتصادية واجتماعية وتنموية لولاها لما نهضت اليابان من كبوتها بعد الحرب العالمية الثانية. وحتى الصناعة اليابانية نهضت بفضل الدعم الأمريكي وبراءات الاختراع الأمريكية. وقد ظلت اليابان إلى فترة قريبة مجرد مطور للتكنولوجيا الالكترونية الأمريكية، ولم تكن تمتلك براءات اختراع خاصة بها إلا فيما بعد، بعد أن مكّنتها أمريكا من الوقوف على رجليها.
ولو انتقلنا إلى كوريا الجنوبية لوجدنا أنها بدورها لم تكن لتنهض وتزدهر لولا الدعم الأمريكي. وكي لا نكذب على بعض، لا يمكن لأي دولة في العالم أن تنهض رغماً عن الإرادة الأمريكية، وكلنا يعلم أن لدى أمريكا ألف وسيلة ووسيلة لوضع العصي في عجلات أي دولة ممنوع عليها أن تتقدم. وقد رأينا ما حصل للذين حاولوا التمرد على الجبروت الأمريكي في كل أنحاء العالم. بعبارة أخرى، فإن الأشواط التي قطعتها كوريا الجنوبية تكنولوجياً وصناعياً لم تكن لتتحقق لولا العون الأمريكي، أو لنقل لولا غض الطرف الأمريكي على أسوأ تقدير.
خيراً هذا يقودنا إلى السؤال التالي: هل يعقل أن تتآمر أمريكا على البلدان المتخلفة والضعيفة كبعض بلداننا، بينما تقدم كل أنواع الدعم للبلدان القوية الصاعدة؟ أم إن مفهومنا لما يسمى المؤامرة الأمريكية (الامبريالية) تجاوز حتى مرحلة تهافت التهافت؟ أتذكر يوماً سألت المفكر والباحث البريطاني الشهير الراحل فريد هاليدي: لماذا يتآمر الغرب على العرب؟ فضحك الرجل وقال: «الغرب يمكن أن يخاف من روسيا لأن لديها ترسانة نووية يمكن أن تدمر العالم ثلاثاً وثلاثين مرة، فماذا لدى العرب ليخيفوا ويهددوا به الغرب كي يجعله يتآمر عليهم؟».
هل تميز أمريكا بين شعوب العالم كما يميز لاعب الشطرنج بين الأحجار الثقيلة والبيادق؟
كاتب واعلامي سوري
[email protected]