تتزايد الكتب في البيت، وتبدأ بتجاوز حدود المكتبة للعثور على مساحات أخرى لها في غرف البيت، بجانب الأَسِرّة تحتها، فوق الطاولات، وتحتها أيضاً. ترتفع أبراجاً هنا وهناك، وغالباً ما تنهار، أحياناً لمجرد المرور بجانبها، ولكنك لا تكفّ عن اقتنائها، بحيث يتجاوز الأمر طاقتك القرائية، وطاقة أهل البيت مجتمعين.
وإذا كانت لك علاقة بالكتابة فإن تكاثر الكتب مضاعف، فبعضها تشتريه لكي تستمتع بقراءته في أقرب وقت، وبعضها مؤجل، لأنه ينتمي إلى فئة المراجع التي تحتاجها الآن أو غداً، أو لعلك لن تحتاجها أبداً، لأنك فقدت الاهتمام بفكرة المشروع الذي كنت تظنّ في لحظة ما أنه الأهم!
في النهاية، أنت مضطر لأن تدخل إلى مكتبتك بهدف تخفيف حمل رفوفها، وأرضيتها وخزائنها.
وغالباً هناك من يطالبك بذلك.
بصراحة، أنت لا تدخل المكتبة طائعاً، لهذا الغرض، بل مرغماً، ومعظمنا كذلك، سواء تعلّق الأمر بالكتب، (أو نسخ الأفلام كما حدث من قبل)، أو بغيرها من الأشياء التي يبدو وكأنها تتوالد أيضاً في غفلة منك.
في بعض الأحيان تغضّ الطرف عن صديق استعار كتاباً أو أكثر، ولم يرجعها، لأنك أصلاً تريده أن يحتفظ بها، وأحياناً العكس، فتختصر الأمر وتعتذر له بحجة أنك لا تعير كتبك أبداً!
في أحيان أخرى، تطلب منك مَدرسة أو جمعية التبرع بكتب لها، فتبدأ باختيار الكتب التي ستتبرع بها، وبعد أن يصبح لديك العدد الكافي تتوقف وتفكر في أولئك الذين سيطالعون هذه الكتب، فتبدأ بوضع جزء منها في كيس آخر؛ إذ تتوصل مثلاً، أن ديوان شعر ضعيف، أو رواية ركيكة، أو كتاباً فيه الكثير من التزمّت والتخلف (وكل هذه من الكتب التي تتسلل عادة إلى مكتبتك لا عن طريق الشراء). هذا النوع هو جزء من تشويه الذائقة وتضليل العقل، لذا فإنك تختار له المضي إلى نقاط إعادة التدوير، إذ تتبرع به كورق فقط.
لا تستطيع أن تكون غير مسؤول وأن ترسل ما لديك لمؤسسة تعليمية أو اجتماعية، لأن الأمر أشبه بالتبرع بطعام فاسد لجائع أو جياع، (بالطبع هذا يحدث في أمكنة كثيرة من هذا العالم، ويطال ذلك حتى الدواء).
ومع وجود أسباب كثيرة لكل شخص للتخلص من كتاب ما، ربما يكون هناك سببان أساسيان للتخلص بالنسبة إلي، الأول: أنني على يقين من عدم عودتي لقراءته مرة أخرى، والثاني: لأنني لا يمكن أن أعود إليه كمرجع في الموضوع الذي يتحدّث فيه، فثمة كثير من الأشياء قد تغيرت، أو تطورت، أو تم الكشف عنها تجعله كتاباً منتهي الصلاحية.
لبعض نقاد الأدب، ربما، أسباب مضافة، مثل دراسة تطور حركة شعرية أو روائية أو قصصية أو نقدية، أو تتبع تطوّر موضوع ما، قضية ما، تحولات أدبية ما، لذا فإنني أتخيل مكتبات بعضهم تتضخم حتى تكاد تلقي بهم خارج البيت، ولقد رأيت أكثر من مرّة شيئاً كهذا.
سأعترف هنا أن بعض الكتب التي تحبها قد تحرص على وجود أكثر من طبعة لها في مكتبتك، هذا الشغف بها يجعلك على الدوام متتبعاً لأخبارها. أما بعض الكتّاب الذين تقع في حب كتاباتهم، فقد يوصلونك إلى نقطة تندفع فيها لشراء كل كتبهم، لكن، للمفارقة، حين لا تحب كتاباً أو اثنين أو ثلاثة منها لا تتخلى عنها، فمحبتك للكاتب تجعلك تحتمل وجود كتب له لا تحبها، أو لا تفضلها في بيتك، وكأنه كلٌّ، مثل إنسان تحبه وتعرف بعض عيوبه، لكنك رغم هذه العيوب تبقى متعلقاً به.
هؤلاء نمط من الكتاب الذين يمكن أن أطلق عليهم صفة: رفاق درب الروح، أو رفاق الحياة، إنهم المؤنسون الذين لا تستطيع أن تتخيل الأدب من دونهم، فثمة شيء كان سينقص لو لم يولدوا.
.. وبعض الكتب تحرص على ترميمها كلما نهشت الأيام قطعة من غلافها، أو تفتت صمغها كالتراب، فتفكك تجليدها. ترعاها كما لو أنها جزء منك.
أحياناً يكون سبب هذه الرعاية أنها جزء من ذاكرتك، ثقافياً أو إنسانياً، أو ثقافياً وإنسانياً معاً، أي قد تكون مولعاً بها ككتب، أو مولعاً بالذكرى التي أوصلت كتاباً ما إلى يديك.
لدي عدد قليل من الكتب ترافقني مذ كنت فتىً، من بيت إلى بيت، وأعتز بها كما لو أنني ألفتها في ذلك العمر!
للكتب الأولى مكانة مختلفة، إمّا لأنها حفرت عميقاً فينا، ونحسّ دائما أننا مدينون لها، وإمّا لأنها أول كتب دخلت بيوتنا، خارج المنهاج المدرسي، وإمّا لأنا فعلنا الكثير لنتمكن من شرائها، ثم فعلنا الأكثر كي لا يكتشف الأهل وجودها، في أزمنة الخوف تلك؛ ففي زمن الخوف لا شيء يثير الرعب أكثر من الكتب حين يداهم الجنود المنازل.
سأعترف، رغم كل هذا، أنني أحزن دائماً كلما رأيت كتاباً يغادر البيت إلى غير رجعة، كما يمكن أن يغادر البيت ولد عاق، ولكنه في النهاية ابنك.
بعض الكتب الجميلة التي أتبرع بها أتمنى لها قرَّاء رائعين يحبونها ويحتفظون بها زمناً طويلاً، قبل أن يتبرعوا بها لأناس آخرين، وأقول هذا لأن كل واحد منا يفكر عشرات المرات قبل أن يجرؤ على التبرع بكتب جيدة حقّاً، لكن الاحتفاظ بها أمر صعب، لذلك تتمنّى أن يستمتع بها بشر آخرون، مثلما استمتعت بها، على الأقل مرة واحدة!
وبعـــد:
بحثت في الإنترنت عن أسباب تخلّص الناس من بعض ما لديهم من أشياء، فوجدت، مثلاً، عدة مواضيع تتحدث عن الأسباب الموجبة للتخلص من الملابس. من هذه الأسباب: عفا عليها الزمن، تغيُّر المقاسات، لا تلائم شخصيتك، لم تلبسها خلال عام، تغيّر موضة ملابسك، لم تعد مريحة.
لكنني أعرف صديقاً أطَّر قميصاً له، لبسه حين دخل المدرسة، وآخر يحتفظ ببنطال مرقّع يذكره بأيام حياته القاسية.
وإذا بحثت عن الأسباب التي تدعو للتخلص من سيارة، أو أثاث، أو حتى ألعاب أطفالك، فستجد الكثير من الأسباب، كما ستجد الطرق التي يمكن أن تتخلص فيها من صديق أو صديقة أو زواج.
ودائماً ستجد أسباباً مشتركة، للأسف، بين هذه المتباعدات.
لكن، في ظني أن كثيراً من الأشياء، بعد أن نتخلص منها فعلاً، لا نستطيع التخلص منها تماماً، وهذا ما يدفع معظم البشر إلى مراكمة كل ما لمس حياتهم بطريقة أو بأخرى، فاحتمال أن يكونوا في لحظة ما في حاجة إلى شيء، تخلوا عنه ذات يوم، أمر يفزعهم؛ فكأن كل ما نراكمه، نراكمه للاختباء خلفه، كما لو أنه شكل من أشكال الدروع، استناداً إلى خبرة بشرية تخشى كل مجهول، تقول: كل شيء لديك ستكون في حاجة إليه، لسبب ما، في لحظة ما.