يسخر الكثيرون من أبناء الجيل الحالي كلما سمعوا أحدا من أبناء الجيل السابق لهم وهو يصف زمنه بـ ‘الزمن الجميل’، بل ويدخلون معه في جدال قائلين كيف يصح هذا الوصف وقد كنتم في حالة معيشية يرثى لها ..
تسكنون البيوت المصنوعة من سعف النخيل وجريده، وتتنقلون بـ’السياكل’ (الدراجات الهوائية)، أو في أفضل الأحوال بواسطة حافلات ‘الجنكل باص’ (حافلات كانت تستخدم قديما في الخليج، جزؤها الخلفي مصنوع من الخشب)، وتنامون الليل فوق أسطح المنازل الرطبة المليئة بالحشرات والفئران، ولم تكن لدى السواد الأعظم منكم مكيفات الهواء أو الثلاجات أو الهواتف او السيارات الخاصة، ناهيك عن بدائية وقذارة حماماتكم وغرفكم وأثاثكم، وسخونة مياهكم صيفا وبرودتها شتاء، وتناولكم صنفا واحدا متكررا من الوجبات الغذائية، وإرتدائكم لملابس لا تتغير سوى في الأعياد، وتسكعكم في الأزقة الترابية القذرة دون أحذية.
ومثل هذا الكلام صحيح، ولا ينكره أبناء الجيل القديم، وربما تفاخر به بعضهم واعتبره دليلا على قدرة تحمله لشظف الحياة، ونجاحه في الصبر والتغلب على ما كان يكابده من معاناة وألم وقلة حيلة. وبعضهم لا يعتبر وصفه لما مضى بالزمن الجميل حنينا إلى الماضي أو شيئا من قبيل الناستولوجيا، بل لقناعته أنه كان جميلا بالفعل لوجود أشياء فيه يفتقدها اليوم.
غير أن ما لا يفهمه أبناء الجيل الحالي هو أن جمال الزمن – أي زمن لا يتأتى من مظاهره المادية المحسوسة، بقدر ما يتأتي من مظاهره غير المجسمة. هذا ناهيك عن إرتباط جمال الزمن وحلاوته بالمكان ومناخاته ومشاعر أهله وناسه وطباعهم.
ومن هنا قد لا تجد مجتمعا، سواء في الخليج أو في خارج الخليج، إلا وفيه أناس يعشقون الماضي ويتذكرونه بحسرة وألم، ويسترجعون صوره كلما خلدوا إلى أنفسهم، رغم أنهم يعيشون الحاضر في ظل أوضاع معيشية وترفيهية ومادية أفضل بمئات المرات. ألا يوجد في مصر مثلا من يحن إلى عهد الباشاوات، ومجتمع الاسكندرية التعددي ذي النكهة اليونانية والايطالية؟ وألا يوجد في العراق مثلا من يحن إلى زمن الملكية حينما كان هذا البلد موئل خير عميم، ومصدر أمن وسلام، وكانت مجتمعاته لا تعرف الفرز الطائفي أو الجهوي؟ وألا يوجد في عدن مثلا من يحن إلى زمن كان فيه هذا الميناء واحة للحريات والتعددية ومجتمعا يزخر بالثقافات الملونة ومكانا يعبره القادمون من الغرب إلى الشرق أو العكس؟ ثم من يستطيع أن ينكر أن الشعب الإيراني ذي الحضارة العريقة والإنجازات الفلسفية العظيمة لا يحن إلى ذلك الزمن الذي كان فيه يملك – على الأقل ـ حرياته الإجتماعية والحق في الإختيار.
وفي المجتمع البحريني، وكذا في معظم المجتمعات الخليجية الأخرى، شهدت حقبتاه الخمسينية والستينية إختلاف الناس في مواقفهم السياسية، وإتجاهاتهم الفكرية، ومدى تزمتهم أو إنفتاحهم إجتماعيا وثقافيا، إلا أن السمة الغالبة للمجتمع كانت التسامح والإعتدال والوسطية وغيرها من السمات الأصيلة للمجتمع المدني والثقافة المدنية، الأمر الذي حال دون إنجراف مجتمعاتنا نحو العنف والإقصاء والتكفير والتجريم والترهيب والغلو والتطرف. وبعبارة أخرى فإنه حينما نتغنى بالماضي ونصفه بالزمن الجميل فإننا نفعل ذلك لأنه كان زمنا مفعما بالود والتواصل والتراحم والمحبة والأمل والعلاقات الدافئة بين أفراد المجتمع، حتى وإنْ كانت مشاربهم الفكرية والإيديولوجية والمذهبية مختلفة.
ومثل هذه السمات الجميلة حينما تطغى على أجواء المكان وطباع أهله – بدلا من صدود المرء عن جاره، وتجرؤ الصغير على الكبير، وشيوع عقوق الوالدين، وإنتشار الفتاوى التكفيرية والنزعة الطائفية البغيضة والروح القبلية العنصرية، وتدفق شلالات الدم والعنف والحرق في كل مكان – فإنه دون أدنى شك قادر على صنع الفرح والبهجة والأمل من خلال أغنية أو قصيدة أو رسمة أو ندوة أو عرض مسرحي أو أكروباتي، بل ربما يجد الفرح في تناوله لفنجان من القهوة أو الشاي، مع قطعة من ‘الجاتوه’ أو ‘السمبوسة’.
يا لقدرة الإنسان على صنع الفرح إذا ما توفرت له البيئة الآمنة والنفس المستقرة!
والإنسان البحريني أثبت أنه قادر على صنع الفرح بتواضعه وتسامحه وبساطته وتواصله، بل أثبت أنه قادر على حمل هذه الخصال الجميلة ونشر عطرها وأريجها أينما حل.
فهل أدركتم لماذا نسمي الماضي بالزمن الجميل ونصر عليه إصرارا؟
لأنه بإختصار شديد ‘إستطاع ضبط إيقاع الإختلاف على روح ثقافة التفاهم والتسامح والعيش المشترك’.
* روائي وباحث ومحاضر أكاديمي من البحرين