لم نبتل في الجزائر برؤساء يكثرون الحديث، بمناسبة ومن دون مناسبة، كما هو حال بعض الدول، إذا استثنينا الفترة القصيرة بعد الاستقلال، التي قضاها الرئيس بن بلة برئاسة الجمهورية. باستثناء هذه الحالة كان كل رؤسائنا مُقلين في الحديث إلى حد التوقف عن الكلام لسنوات، كما حصل مع بوتفليقة، بعد مرضه، رغم أنه كان يملك نزعة قوية إلى الإكثار من الحديث، مستغلا في ذلك تمكنه من اللغتين العربية والفرنسية. في وقت زاد فيه الطلب الشعبي على رئيس يحسن الحديث، بعد تجربة الرئيسين زروال والشاذلي غير الموفقة في هذا الميدان بالذات.
الأمر مختلف تماما مع الرئيس تبون، صاحب الخلفية المهنية البيروقراطية، الذي لم يعرف عنه تجربة حزبية أو سياسية، يمكن أن يعتد بها، تؤهله لاكتساب قدرات متميزة على الخطابة العامة، باللغتين العربية أو الفرنسية، واستمرت عنده جد متواضعة، لتبقى رغم ذلك لغة التخاطب لديه مفهومة وقريبة من اللغة الشعبية المتوسطة، التي يعمل محيط الرئيس الجزائري المستحيل للقضاء على عفويتها وتقريبها لفصحى مزعومة، لا يتحكم فيها الرئيس، ولا يفهمها المواطن المتوسط، كما حصل مع أغلبية رؤسائنا، الذين أصابتهم لعنة السياسة اللغوية المطبقة في المدرسة العمومية، وصلتهم عبر محيطهم القريب العامل معهم. ما جعل الرئيس تبون يختار، منذ وصوله إلى رئاسة الجمهورية، الحديث للمواطنين عبر التلفزيون العمومي، في حصص مسجلة مسبقا، لم تمنع من ظهور ثغرات كبيرة في بعض الأحيان، اثناء عملية التواصل مع المواطنين، التي بقيت باردة وضعيفة الصدى.
يحصل كل هذا لدى أبناء شعب مقل في الحديث، في حياته اليومية، يصعب عليه التعبير عما يجول في خاطره وما يشعر به. داء يمس كل النخبة السياسية، رغم اللغات العديدة المستعملة في حياتها اليومية، على غرار العربية الفصحى والدارجة، الفرنسية والأمازيغية، بمختلف ألسنتها المعروفة. وضع مؤسساتي، لغوي وثقافي قد يفسر لماذا لم نشاهد الرئيس تبون يبادر بالحديث ومخاطبة المواطنين، بعد سلسلة الكبوات الدولية التي عاشتها الجزائر في محيطها الإقليمي المباشر، كما كان الحال مع مستجدات الموقف الفرنسي، في ما يخص قضية الاعتراف بمغربية الصحراء، الذي أيد فيه المقترح المغربي المبني على الحكم الذاتي، كسبيل «وحيد» لحل هذا الملف القديم. زيادة على التوتر العسكري على حدودنا الجنوبية مع دولة النيجر ومالي، إذ اكتفينا بهذين الملفين المهمين بالنسبة للجزائر. المرتبطين ببعضهما بعضا.
نحن أمام وضع إقليمي ودولي خطير ومضطرب بالنسبة للجزائر، يتطلب تدخل الرئيس في خطاب للأمة، لتطمين الجزائريين، وشرح ملابسات هذا الوضع على الأمن الوطني في أول فرصة
موقف فرنسي يظهر وكأنه فاجأ الطرف الجزائري، الذي جاء رده عليه مضطربا وغير مفهوم، تكفلت بالتعبير عنه في البداية وسائل إعلام رسمية – وكالة الأنباء – ليحال الملف إلى رئيس مجلس الأمة، الذي تكلم أكثر كمجاهد جيش التحرير، كما يمكن أن يستشف من خطابه، وأخيرا وزير الخارجية عبر ندوة صحافية، غير موفقة تماما، زادها غموضا نوعية الأسئلة التي طرحها الإعلاميون الحاضرون، غير المؤهلين عندما يتعلق الأمر بالملفات الدولية، الذين يعيشون في جو إعلامي وسياسي مغلق، لم يسمح للإعلام الوطني بالتحول إلى قوة ناعمة مدافعة عن مصالح البلد وسياسته الخارجية، رغم أن العديد من المؤشرات كانت تخبرنا يوميا أن الموقف الرسمي الفرنسي كان متوقعا ليس في ما يخص فرنسا فقط، بل قد يجر دولا أوروبية أخرى بعد إسبانيا وألمانيا، للمكانة الخاصة التي تحتلها فرنسا في علاقاتها بالجزائر، بكل تأثيراتها الأوروبية. في انتظار عودة ترامب إلى البيت الابيض الذي كان وراء تدشين هذه المواقف العلنية المؤيدة للمغرب، يمكن أن تتطور بشكل لافت، قد يجعل الجزائر في موقع لا تحسد عليه دوليا، على المدى القصير، قبل المتوسط والبعيد. مع بداية العهدة الثانية للرئيس تبون هو الذي كان ينتظر زيارة باريس للبت في الكثير من الملفات التاريخية العالقة بين البلدين، في وقت ازداد فيه الوضع على الحدود الجنوبية، تعقيدا وتدويلا، بعد بروز مؤشرات قوية عن حضور عسكري عبر مجموعة فاغنر الروسية، بالقرب من الحدود الجنوبية والشرقية للجزائر، في دول الساحل وليبيا، التي تعيش حالة تسيب على حدودها، بكل تبعاتها على مستوى الهجرة الدولية غير النظامية في المنطقة، تمس الجزائر مباشرة، زيادة على كل محيطها الإقليمي القريب سياسيا منها حتى الآن، مثل تونس وموريتانيا، ناهيك عن المجاميع الإرهابية المتحركة في المنطقة، منذ سنوات. هذا إذا اكتفينا بهذه الملفات ولم نطرح الفشل الذي منيت به الدبلوماسية الجزائرية وهي تحاول الانضمام لمنظمة البريكس، التي بلعها المواطن الجزائري، على مضض، بكل ما تحيل اليه من تصدع في علاقات الجزائر مع قوى دولية المفروض أنها صديقة للجزائر، كما هو حال روسيا والصين.
نحن إذن أمام وضع إقليمي ودولي خطير ومضطرب بالنسبة للجزائر، يتطلب تدخل الرئيس في خطاب للأمة، لتطمين الجزائريين، وشرح ملابسات هذا الوضع على الأمن الوطني في أول فرصة، بعيدا عن أجواء الحملة الانتخابية، بموازاة فتح نقاش وطني عميق حول السياسة الخارجية الوطنية، التي تبدو للملاحظ الأجنبي مثل المواطن، أنها تعيش حالة تكلس أيديولوجي، دامت طويلا، لم تعد قادرة على التكيف مع التحولات الدولية السريعة، في وقت صعود قوى اليمين المتطرف، في دول الشمال المقابلة للحدود الجزائرية على ضفة المتوسط. لم تعرف الجزائر كيف تتصدى لها بالارتباط بقوى سياسية واجتماعية مؤيدة لها، كما كانت تفعل مع قوى اليسار في أكثر من بلد أوروبي. كان وما زال حاضرا بقوة داخل الحركات الاجتماعية، كما بينته الانتخابات الفرنسية والبريطانية التشريعية الأخيرة وهي تقف في وجه موجة اليمين المتطرف الكاسحة، ما يتطلب تجديدا وتنقيحا للعقيدة الوطنية في مجالي الدفاع والسياسية الخارجية، من دون التنكر للقيم السياسية الإنسانية التي دافعت عنها الجزائر تاريخيا. في الفضاءات الجيو- سياسية المهمة بالنسبة للجزائر، كما هو حال المنطقة العربية، حالة تحرش تقودها دول بعينها، من حق المواطن والإعلامي أن يعرفها، بدل الاستمرار في منطق الكلام الساكت، السائد.
الشيء نفسه بالنسبة لافريقيا الذي آن الأوان، ربما، للتخلص من القراءة التي تتعامل بها الدبلوماسية الجزائرية مع القارة السمراء، وكأنها خريطة سياسية جامدة، غير قابلة للتغيير، كما يحصل مع دولتي جنوب افريقيا ونيجيريا، القريبتين من الجزائر سياسيا حتى الآن، بتركيز مبالغ فيه على المدى الطويل، الذي لم يعد هو السائد في وقت تعيش العلاقات الدولية تحولات سريعة جدا.
*كاتب جزائري