بعد مرور أكثر من 300 يوم على اندلاع حرب قطاع غزة، الكثير يتساءل: لماذا تستمر إسرائيل في نهج حرب الإبادة ضد الفلسطينيين؟ ولماذا يلتزم الغرب الصمت، بل يبرر هذه الجرائم؟ قد نجد الجواب في المصلحة المتبادلة بين الطرفين، هي مصلحة بعيدة المدى ولها جذور جيوسياسية تاريخية ذات امتداد مستقبلي. وهكذا، فقد أكملت حرب قطاع غزة شهرها العاشر، وكان الاعتقاد السائد في البدء عند اندلاعها هو استمرار هذه الحرب بضعة أسابيع فقط، وأن إسرائيل لن تتجرأ على قتل واغتيال أكثر من أربعة أو خمسة آلاف فلسطيني. غير أن الأسابيع أصبحت شهورا وقد تمتد إلى أكثر من سنة، وتجاوزت نسبة الشهداء في صفوف الفلسطينيين الأربعين ألفا، بمعدل 40 فلسطينيا مقابل كل إسرائيلي لقي حتفه يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول في «طوفان الأقصى». وتحولت هذه الحرب إلى جريمة ضد الإنسانية بمباركة بعض دول الغرب التي توفر لإسرائيل السلاح والحماية القانونية الدولية.
وعليه: لماذا تستمر إسرائيل في القتل؟ الجواب السريع والجاهز، الذي يردده بعض المحللين وهو الانتقام من حركة حماس والقضاء عليها نهائيا في قطاع غزة، هذا الجواب هو تأويل لواقع حقيقي، ولا يمكن إنكار صحته، لاسيما الخطورة التي تشكلها حماس على الحلم الإسرائيلي، مقابل موقف الهدنة الذي تلتزمه السلطة الفلسطينية. وتبقى ممارسة إسرائيل أقسى مستويات العنف والقتل والتدمير، ما جعل رؤساء دول مثل البرازيلي لولا دا سيلفا يقارنون ذلك بالنازية، هو سعيها لتحقيق هدف له انعكاسات طويلة المدى: ضرورة تقليص نسبة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وكانت مجلة «لانسيت» البريطانية قد اعتبرت في تقرير لها، لم يحظ بالاهتمام الإعلامي الكافي، أن نسبة القتلى مهول. ارتباطا بهذا، وخلال بداية يوليو/تموز المنصرم، ووفقاً لمصادر حكومية في غزة، فإن عدد القتلى الرسمي منذ بدء الهجوم الإسرائيلي بلغ 37396 قتيلاً، الآن تجاوز الأربعين ألف.
تريد إسرائيل حربا إقليمية محدودة لا تشكل خطرا وجوديا عليها، وترمي من وراء هذا الهدف إلى إعادة الغرب والولايات المتحدة إلى الاهتمام بالشرق الأوسط كنقطة رئيسية وليست ثانوية
لكن مجلة «لانسيت» أشارت إلى أن هذا الرقم لا يعكس الآلاف من الناس الذين دفنوا تحت الأنقاض، ولا الوفيات التي لا تعد ولا تحصى، الناجمة عن التدمير المتعمد لأنظمة توزيع الغذاء والرعاية الصحية والصرف الصحي في غزة. لقد ركزت إسرائيل على قتل الأطفال والشباب، وهي بهذا تقتل تكوين أسر في المستقبل، لأن قتل طفل وشاب يعني منع تأسيس أسرة مستقبلا. إن عملية القتل في هذه الحرب تتجاوز الانتقام إلى الرغبة في تقليص نسبة الفلسطينيين، وهو ما تحققه إسرائيل بالقتل المباشر. في الوقت ذاته، يعتبر تدمير البنية التحتية ومنها مياه الصرف الصحي والمستشفيات وعرقلة دخول المواد الغذائية، عملا إرهابيا آخر سيؤثر على حياة عشرات الآلاف من الفلسطينيين. إن الخطر الحالي والمستقبلي الذي تعاني منه إسرائيل هو تراجع نسبة الولادات وسط اليهود، مقابل ارتفاعها في المقابل في صفوف الفلسطينيين، ولهذا، فهي تعالج ما يسمى «القنبلة البشرية» نسبة الى توالد الفلسطينيين بالقنبلة الحربية، أي الإبادة. في هدف آخر للكيان، هو أن إسرائيل قلقة جدا من التغيير الطارئ في أجندة الولايات المتحدة والغرب برمته، والمتمثل في الاهتمام بمنطقة المحيط الهادئ أكثر من الشرق الأوسط، لأن ثقل العالم العسكري والاقتصادي ينتقل إلى هذه المنطقة، بسبب القوة المتصاعدة للصين وتنسيقها مع روسيا. وبالتالي، رغم قول بعض الآراء والتحاليل برغبة إسرائيل في احتواء الصراع، وعدم التسبب في اتساع الحرب لتصبح إقليمية، يبقى هذا الرأي غير ملم بالهدف الإسرائيلي العميق. تريد إسرائيل حربا إقليمية محدودة لا تشكل خطرا وجوديا عليها، وترمي من وراء هذا الهدف إلى إعادة الغرب والولايات المتحدة إلى الاهتمام بالشرق الأوسط كنقطة رئيسية وليست ثانوية في أجندة هذا الغرب. ويكفي أن معظم الدول الأوروبية والولايات المتحدة، قد رفعت من وجودها العسكري في الشرق الأوسط بشكل مثير منذ «طوفان الأقصى» وسيستمر لسنوات طويلة كما حدث في العراق وأفغانستان وسوريا. وهذا يجعلنا نتحدث عن وجود حقيقي لمنظمة شمال الحلف الأطلسي في هذه المنطقة من العالم.
وماذا عن هدف الغرب؟ وإن توجهت الولايات المتحدة نحو المحيط الهادئ في محاولة لاحتواء الصين، لا يمكنها التفريط الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط بسبب طابعها الديني، ثم بسبب ثرواتها التي تعتمدها الصين. في الوقت ذاته، لا يريد الغرب أي وحدة عربية وإسلامية، بل يريد بقاء العرب والمسلمين منقسمين، ويخاف من ظهور طبقة سياسية واقتصادية ديمقراطية وليبرالية، ولكنها متشبعة بثقافتها الإسلامية والعربية، وتريد لعب دور يعيد العزة والكرامة إلى أممها. ومن ضمن الأفكار الرئيسية التي تقوم عليها نظرية «صراع الحضارات» للمفكر الأمريكي صامويل هنتنغتون هو التخوف من ظهور طبقة سياسية واقتصادية متشبعة بالفكر القومي والديني الإسلامي مستقبلا، لأنها ستنتهي بمواجهة الغرب. وهو السيناريو الذي يحدث الآن في تركيا وإندونيسيا وماليزيا وإيران، وقد ينتقل الى العالم العربي مستقبلا ليحل محل التطبيع. ولهذا، وإن توجه الغرب الى المحيط الهادئ، سيترك إسرائيل بمثابة مسمار جحا في الشرق الأوسط، لكي تقوم بمهام عرقلة أي وحدة للشعوب المتنوعة ثقافية وإثنيا، التي تعيش في العالم العربي الممتد من شمال افريقيا والشرق الأوسط. لا يريد الغرب نهائيا أن يكون في جنوبه حزام إسلامي موحد، من جهة، لكي يضمن استقرار حدوده الجنوبية، ومن جهة أخرى حتى لا يتحالف هذا الحزام الإسلامي مع الصين مستقبلا.
تطبيق مثل هذه التصورات يخضع لتراكم الزمن على المستوى البعيد، ولهذا، كل قرارات إسرائيل والغرب ذات جذور تاريخية بمنظور جيوسياسي. ما أن انتهى العالم العربي من الاستعمار بعدما جرى تقسميه وفق اتفاقية سايكس بيكو التي عانى منها حتى الآن حتى ظهرت إسرائيل لتخلق مشاكل لعقود طويلة لصالح الغرب حتى تبقى حدوده الجنوبية من دون مصدر خطر عليه.
كاتب مغربي