بيني وبين رواية ‘لمن يقرع الجرس’ وهي الترجمة الصحيحة لرواية آرنست همنغواي، وقد ترجمت إلى ” لوقعها الشعري الذي سيخلب الخيال ويولد فيه اتساعات ملحمية، بيني وبينها شجن وود، حيث كانت الرواية الثانية التي قرأتها بعد رواية ‘البؤساء’ لفيكتور هيغو. تعرفت عليها، حين كنت في بداية المرحلة الإعدادية، من خلال البسطات التي كانت في ساحة الحرية ‘ساحة الساعة الجديدة’ في حمص، بداية سبعينيات القرن الفائت. كانت في تلك الساحة بسطتان، الأولى أمام سينما حمص على الرصيف الذي يقوم بين سينما حمص والشارع العام، والبسطة الثانية مقامة على سور القصر العدلي أمام البريد، غير بعيدة عن البسطة الأولى. هاتان البسطتان قامتا في ذلك المكان بين دور سينما الزهراء وسينما حمص والشرق والكندي وسينما الفاروق، وبين مطاعم الحلويات الحمصية، الحلاوة بالجبن والسلورة. كانت حمص، بالنسبة لي، هي تلك الساحة، حيث تلتقي فيها الفنون أجمع، دور العرض السينمائي وربما المسرحي أيضا ومكان الروايات، الأدب القادم من لبنان معروضا في تلك البسطتين، ثم من يكون هناك، يكون قريبا من مطاعم حلويات الجبن والبوظة… في بسطة القصر العدلي وجدتُ نسختين من رواية آرنست همنغواي، الأولى حوالي المئتي صفحة، والأخرى بخمسمائة صفحة، وقد شعرت أن الأخيرة أقرب لروح الرواية الأصلية، فالأولى من مئتي صفحة، ستكون رواية مختصرة وبالتالي سيحذف منها مشاهد ربما اعتبرها المترجم زائدة عن اللزوم، وهذا برأيي نوع من تدمير الأدب، الأدب لا يختصر ولا يمكن التعبير عنه ببضع كلمات. لم أكن أحمل المبلغ الكامل لشراء الثانية، كان سعرها (ليرة ونصف) والأولى المختصرة كانت بثلاثة أرباع الليرة؛ لم أشتر الأولى، وذهبت إلى المنزل على أن أعود في يوم آخر ومعي المبلغ اللازم لشراء الثانية. أنفقت تلك الليلة أحلم بها، وقلبت صفحاتها في خيالي مرة أخرى، بينما كنت واقفا أمام البسطة، قرأت البداية فحفزتني ونشطت خيالي على المتابعة، بينما الشمس كانت تغيب ويتحضر صاحب البسطة للرحيل، ويلمّ كتبه ورواياته التي كنت أعتبرها كنزا لا ثمن له. حمص لم تكن فقط المكمن الأول لتعرفي على الأدب، بل كانت أيضا مكمن التفتح على العالم، بدت وكأنها بوابة العالم الجديد، أي جديد؟ لا أدري! لكن شعورا كبيرا كنت أحمله عن هذه المدينة، انها مدينة تختلف عن المدن الأخرى التي عرفتها والتي سأعرفها فيما بعد. في حينا تحصل مشاجرة بين شباب من قبيلة الفواعرة وبين مؤيدي صاحب انقلاب الحركة التصحيحية، وتقف فتاة بدوية، اسمها هاله، وتشير إلى شاب مؤيد يحمل مسدسا، تتقدم منه تقول’ اضرب ياول إن جنت زلمة؟! لكن الفزعة، شباب البدو يهبطون، لا أحد يدري من أين، يتقدمون منهم كي يهربوا ويهرب معهم المؤيد. ترفع هاله التي رحت أميل إليها فيما بعد، صوتا عاليا تقول: انهزم، أبو فرد وفشكة، انهزم! كانت تشبه ‘رادا سيفتلانا توما’ في فيلم ‘مخيم الغجر يصعد إلى السماء’، مع سمرة، وفي قسامة وجهها، في عينيها الواسعتين وقص الجبهة الواسع، وكانت قد رأتني أنظر إليها في إحدى المرات، فتبسمت وأعلت صوتها كي تسمع من حولها ولهي بها، لكنني لم أفهم ما قالته، وأحسست بضرب من السخرية الناعم وأنني صغير ولا قدرة لي على حمل الحب. بؤرة المشكلة في سوريا بدأت في ذلك اليوم، بداية السبعينيات، في تلك المشاجرة بين شباب البدو وبين الوافدين الجدد على حي الزهرة في حمص. كنت أقرأ في صحن الدار، وكان همنغواي بالنسبة لي غواية، فخياله الحي النشط يخلق عالما متحركا، سرعان ماينتقل ذلك النشاط إلى القارئ كي يتشربه ويسقطه، فتصبح في النهاية ‘ماريا’ حبيبة ‘روبيرتو’ بطل رواية ، هي ‘هاله’، التي في إحدى الأعصر، بينما كنت اقرأ في صحن الدار، تزور منزل ابنة جارنا الذي يطل علينا، وتجلس في الشرفة، تنظر نحوي كيف اقرأ، من دون أن أعلم، مبتسمة تناغي صاحبتها. لا أدري كيف تحققت الرؤيا حين كنت أتصور ماريا في الرواية، هي هاله. لم تحدث الصاعقة في داخلي إلا حين رفعت رأسي، أنظر إلى الشرفة فأرى هاله جالسه فيها تنظر نحوي. حينها شعرت بتزامن عالمي الداخلي، وعالم الرواية، والعالم الواقعي، وكأنني أعيش في عالم آخر، حضرت فيه هاله، وهاهي أمامي تبادلني حبي الصغير المتلعثم الذي لا يدري كيف يتصرف. كانت حمص مدينة هواء البدر الذي يكون وسط السماء، نسائم ليل تبدد سخونة صيف المدن الأخرى، أشجارا تميل ونجوما عالية تبرق، وتصوفا وميتافيزيقة وماركسية ووجودية؛ وأفلام ‘الطلقة 41 مسافر تحت المطر، صيد الذباب، قطط شارع الحمرا، الاختيار عن رواية نجيب محفوظ ومن تمثيل عزت العلايلي، الذي عرض أيامها في سينما الزهراء، وكان التحدي بين مثقفي المدينة إبانها هو من سيفهم الفيلم، ومن هو القاتل…وأفلام الكوبوي ثلاثة أيام لجوني يوما، زاباتا المكسيكي. مسرحيات فرحان بلبل، لا تنظر من ثقب الباب، العيون ذات الإتساع الضيق- يعرض في مسرح دار المعلمين بحمص مسرحية ‘الفدائي وصبية القرية’ الذي كتب لي الحظ أن أكون احد صبيتها على مسرح يحضره معظم مثقفي حمص. الروح التي كانت تهيمن على تلك الأزمنة كانت روحا مندفعة، متصالحة مع الآخر، يُسمع غناؤها وصخبها في كل مكان. الحياة بمثابة أمل للجميع، وكانت فرصة كبيرة لقائد الحركة التصحيحية لأن يجعل قوام سوريا واحدا، من دون طوائف ولا عصبيات ولا عشائر، الفرصة كانت بين يديه، أن يقرب الساحل السوري من مدن الداخل، ويقوي وحدة البلد، لكن الذي فعله هو العكس، وقد حدست به تلك الفتاة ‘هالة’ حين رأت القادم الجديد يحمل مسدسا ويوجهه نحوها. كان بيد القائد فعل مالم يفعله حراس الزمان، فيكون بذلك قائدا وطنيا تاريخيا، لكنه في تلك اللحظة التي استولى فيها على السلطة بدأ يفتح أبواب الرشاوى واللصوصية- التي جعلت من المقربين منه من أغنياء العالم- والمحسوبية والطائفية، لقد قلب القضية الوطنية رأسا على عقب، فبدلا من أن يعمل من أجل سوريا والإنسان السوري عمل من أجله ومن أجل من يحميه ويناصره. ف؟ تقرع لك يا حمص، تقرع لك يا سوريا الحرية.
لقد ذكرتني بتلك الحقبة ايام الكتب على سور جنينة الدبابير و بعدها على حيط السرايا وقصص طرزان و ارسين لوبين