يدورُ هذا السؤال الكبير دورتهُ في أعماق الكتّاب والشعراء والمؤلفين العرب بشكلٍ خاص والعالميين بشكلٍ عام، هو السؤال الجوهر في مشروع الثقافة الكبير في رأيي، وهو السؤال الذي يتشكل كتشكيل شبكة عنكبوتية للأفكار التي تدور حوله وفيه، لمن نكتب؟ وهو سؤال البدء في الكتابة، الهاجس الأول الذي ينتابنا قبل الولوج في عملية الكتابة، عند التقاط روح الفكرة الأولى، بعد سؤال لمن نكتب؟ هو سؤال هل سيقرأ أحد، لكن في رأيي لمن نكتب قبل السؤال عن القارئ المجهول، خصوصاً في هذا الزمن الذي تغيّرت طرقهُ وأدواتهُ وتتطور طرق القراءة، والبحث عن الجوهر المختصر دائماً، الجوهر الذي يعشش في ذهنية المتلقي/ القارئ، الذي عادةً ليس لديه الوقت لقراءة كل ما يقع في يديه، وهي نادرة أحياناً، وربما فقط تحدث مع المختصين في الشأن الثقافي العام، لكن حين نبدأ بالكتابة، علينا أن نجيب عن سؤال الأعماق، لمن نكتب؟ والجواب هو فكرة الكتابة أو فكرة الموضوع، فمشروع الكاتب هو مشروع ثقافي محض، يريد أن يدرك طبيعة الفئة المستهدفة سيكولوجياً، ومَن يُخاطب؟ وعليه إدراك سيكولوجيا الجماهير/ القرّاء.
وكان الكاتب الشهيد غسان كنفاني قد سأل هذا السؤال في أحد حواراته، قال: لمن نكتب؟ لعامة الناس أم للنّخبة؟ ففضل أن يكتب حالة الشعب/ اللاجئين والعمال والطلبة/ والأطفال، وظل سؤالهُ مطروحاً للآن لكتّاب هذا العصر، بعيداً عن التصنيفات العامية أو النخبوية أو حتى بالصفات، مثل الكاتب المناضل، أو شاعر المقاومة، لا يعني أنّه فقط كاتب المقاومة وكاتب النضال، ليست هذه الصفات جواباً لسؤال: لمن نكتب؟ لكن علينا بإنصات داخلي أن نجد الجواب قبل الكتابة، وقد طرح السؤال ذاته الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في أحد حواراته، قال: لا أستطيع أن أقف عند ديوان قديم لي أحبّه الناس، فمهمة الكاتب ليست مهمة القارئ، خصوصاً أنّ القارئ يتطور معي وأنا أراقبه، أراقب ذائقته ومدى إدراكهِ للشعر، هذه المراقبة الدرويشية هي الوجه الآخر لسؤال: لمن نكتب؟ وقال أيضاً: أفرح حين أجد في أمسياتي الشعرية أنّ الحضور أغلبهُ من فئة الشباب الجامعيين، هذا يعني بأنّ لغتي لم تهرم.
لمن نكتب؟ والجواب هو فكرة الكتابة أو فكرة الموضوع، فمشروع الكاتب هو مشروع ثقافي محض، يريد أن يدرك طبيعة الفئة المستهدفة سيكولوجياً، ومَن يُخاطب؟ وعليه إدراك سيكولوجيا الجماهير/ القرّاء.
وكنتُ أيضاً حضرتُ محاضرةً لمنير فاشه في بيروت، وهو مفكر نقدي إصلاحي وعالم تربوي، قال: لن تنجح الكتابة إذا لم تتكلم بلسان حال الناس، شعراء وكتّاب القرن العشرين نجحوا لأنّهم كتبوا عن الناس من الناس وكانوا لسانهم، أي تكلموا بلغتهم، بلغة الناس، فاستطاعوا صناعة إبداعهم، فالسؤال هو كيف نكون لسان حال الناس؟ لا أقصد أن نكتب «حسب السوق» أو ما يطلبهُ الجمهور، لكنني أقصد كيف نعبّر بالكتابة عن أحوال الناس، كي نستطيع الإجابة على سؤال: لمن نكتب؟ في هذا العصر الذي كثر فيهِ الهرج والمرج على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من الوسائل الإعلامية السهلة الاستخدام والنشر فيها، دون ضوابط محددة، فهل نكتب كي ننشر فقط؟ وأن نحصي عدد المعجبين والمعجبات الافتراضيين، ونقيس بذلك نجاحاُ مبهراً للمادة المنشورة لأنّها حققت التفاعل الافتراضي؟ ونعتبر أنفسنا قد وصلنا لفكرة أنّنا نعرف لمن نكتب، هذه افتراضية ناقصة، إنّها افتراضية السوقية أو بالأحرى «الفيسبوكية» لو صحّ التعبير، ويجب أن نعرف أنّ تفاعلا عن تفاعل يختلف، هناك تفاعلٌ مؤقتٌ ويموت عادةً خلال أيّام، وهناك تفاعلٌ يترك وراءهُ تأثيراً طويلاً لا يمحوهُ الزمن، يبقى في ذاكرة القارئ، وحتى ذاكرة القارئ ففيها طبقات في التأثير والذاكرة الجمعية، إنّها تُحصي السريع وتُحصي الخالد فيها، فكيف يحفظ الناس قصائد للشعراء القدامى أو أقوال الكتّاب العظماء على مرِّ التاريخ؟ لأنّ ذاكرة الجماهير جاهزة لاستقبال كل ما يمر في ذهنها حين تقرأ، لكن في مستويات مختلفة، والإبداع الحقيقي هو الإبداع الباقي والذي يخلد في ذاكرة الناس، لأنّهُ يعبّر عنهم، وقد يكون الكاتب قد أدرك تماماً ماهية سؤال: لمن نكتب؟ حين يصل إلى الخلود الإبداعي الذي يبحث عنهُ، ونحن عادةً نكتب كي نُؤثّر في الآخرين، وإلا يتحوّل سؤال: لِمن نكتب؟ إلى سؤال: لماذا نكتب؟ وكِلا السؤالين يجب أن ندرك ما تبطّن فيهما كي نجد الأجوبة، لكي نستطيع الكتابة وصناعة الإبداع المنتظر خلف فكرة الغاية، حيث نعثر على الأجوبة، فإنّنا بكل تأكيد نستطيع الولوج في عمليّة الكتابة بسيكولوجيا مختلفة، ربّما ما يسمى بلحظة الإلهام النفسي لإشباع الحاجات الداخلية للمشاعر التي دفعتنا للكتابة، ليس للشعر حسب، بل كل أشكال الكتابة، فهي بحاجة إلى الطقس النفسي وأسئلة الأعماق الباطنية ومنها: السؤال عن سبب الكتابة، وفي رأيي الشخصي، للقضايا التي نتناولها السبب الكبير للعثور على الأجوبة، والتقاط التأثير، لأنّ القضايا العامة والخاصة هي قضايا مشتركة أو من المفترض أن تكون مشتركة بين الكاتب والمتلقي، يعني لمن نكتب لأجلهِ أو له، إذا وصلنا إلى حدود المشترك في تناول القضايا الشخصية والحياتية وحتى القضايا الكبرى، نكون قد لمسنا المشترك بيننا وبين القارئ المجهول والمتعدد المستويات، وهنا لا أعني أن نفكر كثيراً بمن سوف يقرأ، لكنني أعني من الضروري أن نحدد، لمن سوف نكتب.
كاتب فلسطيني