لم أستقلْ باصَ الأوتومارس

«على أي حال، لقد كنتُ أحيا، تعذبتُ بالفعل، لكنني رغم هذا العذاب، كنت أحيا». العبارة للروائي الروسي فيودور دوستويفسكي، دونها في إحدى رسائله إلى أخيه بعد انقضاء مدة سجنه في سيبيريا، محكوما بالأشغال الشاقة، وقصةُ نجاته من الإعدام في اللحظات الأخيرة بعفو من القيصر معروفةٌ للقارئ.
إذا كنت ركبتَ باص الأوتومارس في تلك الليلة، فإنك الآن ميت، ويداك معقودتان إلى الخلف، وعيناك معصوبتان ووجهك إلى السماء أو الأرض، يضمك مع أهلك وأقربائك وجيرانك وناس مدينتك قبرٌ واسعٌ تتحد فيه الآهات، وتبلغ قرارا عميقا.
جرت هذه الأحداث في اليوم الأخير من الانتفاضة الربيعية عام 1991، وكنتُ أعمل طبيبا في مستشفى يقع عند مشارف المدينة، عندما اقتحمته قوات الحرس الجمهوري، وكانت مهمتها إنهاء الانتفاضة ـ أنا أدعوها ثورة التسعين – بأي ثمن. انتشر الجنود في أرجاء المبنى، وكانوا يُطلقون النار أو يعتقلون كل من يصادفونه من الرجال الملتحين، لأن في ذلك دلالة ـ حسب تقديرهم – على انتمائهم إلى حزب أو جهة إسلامية معارضة للنظام الحاكم. لم أكن منتمياً إلى أي جهة دينية سياسية أو غير دينية، وفي ساعة تجد نفسك محاصرا من جميع الجهات، وليس هناك من حل إلا بالتخلص من هذه الشبهة. كان مسكني يقع في (دار الأطباء) بعيدا عن المشفى بحوالي 500 متر، وفي تلك الليلة بات أمر القفز إلى هذا المكان لغرض الحلاقة ضربا من المستحيل، لأن جنود الحرس منتشرون في كل مكان في الخارج والداخل.
ما العمل؟
اخترتُ التجول في أنحاء المبنى المظلمة، وعليكَ أن تعثر وسط العتمة الشديدة على شفرة للحلاقة، ولما استحال عليّ الأمر في الردهات الخاصة بالمرضى، لأنها كانت فارغة في تلك الأيام، قصدتُ صالة العمليات الكبرى، حيث كنت أجري قبل أكثر من ساعة عملية هندمة بتر ساق الطفلة «نغم» وهذه القصة ذكرتها في مقال سابق منشور في هذه الصحيفة. رحتُ أبحث عن مشرط مما نستعمله في صالة العمليات لغرض حلاقة ذقني، وجربتُ النوع الذي عثرتُ عليه وفشلت، إلا إذا كنتُ أشاء تشويه وجهي إلى الأبد. كان الموقف يتصاعد في خطورته، لأن صياح المعتقلين أخذ يملأ الجو، وصراخهم واستغاثاتهم، والجنود يفتشون كل سنتيمتر مربع من المكان، وعليّ أن أجد حلا، وإلا كان مصيري مثلهم. اصطفت في هذه الأثناء في ساحة المستشفى باصات مرسيدس 50 راكبا كنتُ أراها أول مرة، تحمل على جانبها اسما بات مرعبا لنا، وصداه ما يزال يُثير لدى العراقيين الهلع: (أوتو مارس).
في ذلك اليوم كانت السماء تمطر ببطء، لكن دون توقف، وعندما حل المساء كانت الظلمة شاملة في المبنى، حتى أني كنت أغلق عينيّ من أجل أن يزداد تركيزي. درتُ في صالات عمليات الجراحة العامة والكسور والنسائية والعيون، وكنت أحوم في دائرة من ضباب أسود. وفجأة فتحتُ عينيّ ورأيتُ القمر يطلع بين الغيوم، وبدأ ينير النافذة الواسعة في مطبخ يقع في الجوار من غرفة الاستراحة، اهتديتُ إليه عن طريق الذاكرة لا البصر، لأن هذا تعطل بسبب الظلام. برقت عند حافة حوض غسيل الصحون موسى للحلاقة مستعمل وقديم ويغطيه الصدأ. دون مرآة حلقتُ ذقني بالتلمس، على طريقة كولونيل ماركيز، الذي لا يراسله أحد، وكنت برفقة بدر يتوسط سماء ربيعية صافية، نجومها تحرسني وأنا أتخلص من لحية نمت على وجهي مدة أسبوعين، وأكثر، وماء الصنبور يرسلها إلى المجرى سريعا. كما أنه عليك أن تعمل في عُجالة لأن خطوات الجنود صارت قريبة، وها هم يدخلون المكان، وكُتِبت لي النجاة من القتل الفوري، وكان الأمر متعلقا بآخر شعرات ذِقني…
في هذه الأثناء كانت باصات الأوتو مارس تمتلئ إلى آخرها بالمعتقلين، وكنا نظن أنهم يُنقلون إلى جهة أمنية لغرض التحقيق معهم، وتبين بعد ذلك أنهم كانوا يشهدون في البادية القريبة، وتحت قمري الربيعي ذاته، حفلات قتل جماعي ودفن جماعي مع أنة أسى واحدة، في مقابر تم إحصاؤها بعد سقوط النظام، وبلغ عدد المكتشف منها 365 مقبرة جماعية، أي بعدد أيام السنة الكبيسة.
أهل الريف القريبون من حفلات القتل الجماعي، رووا لنا بعد ذلك قصصا عجيبة، فبعد أن ظلت تتقاطر الباصات ويزداد عددها، وتعود إلى المدينة ثانية وتأتي محملة بالبشر، اكتشف المسؤولون عن فرق الإعدام الجماعي أنهم لا يحملون العتاد الكافي، أو ربما ألجمهم الارتباك لأنهم كانوا يطلقون الرصاص على ناس مدينتهم لساعات عديدة، ابتكروا طريقة جديدة لإبادتهم والتخلص منهم بسرعة ودون جهد. قاموا بدفنهم وهم أحياء، لكي تتعدد الآهات وتفقد صداها في البرية، وكان مصدرها طفل وامرأة وفتاة وشاب وشيخ وعجوز، إلى آخر روح انطفأت ثمة، وأحاول هنا إشعال شمعة لها، يساعدني في عملي قمر الربيع الذي هداني إلى شفرة الحلاقة في تلك الليلة، فتخلصتُ من لحيتي ولم أستقلْ مع أهلي، وأنا معقود اليدين ومعصوب العينين، باص الأوتومارس.
يحق القول لنا الآن إن ما يجري في غزة التي تدوسها الدبابات وتدكها المدفعية والطائرات الإسرائيلية بحجة الدفاع عن النفس، كانت له نسخة أخرى مطابقة طبعها البعثيون على مدننا في زمن ثورة التسعين، وهنالك فارق واحد، فقد تمت هنا تحت الأرض، بينما يُقتل اليوم إخوتنا في مدينة غزة المنكوبة فوق سطحها.
فوق الأرض وتحت الأرض؛ السبيل مختلفةٌ والمصير واحد.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية