لم يكن ذلك الرئيس الذي يمكن السيطرة عليه

اصطدمت أحلام تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي في تونس، بأزمات سياسية ناتجة عن الصراعات الحزبية الضيقة داخل البرلمان وفي الفضاء العام. وإكراهات الواقع السياسي الموبوء بالمصلحة الفئوية على حساب المصلحة الوطنية. هو ما دفع الرئيس قيس سعيد إلى اتخاذ قرارات 25 يوليو، التي لاقت ترحيبا واسعا من الشارع التونسي.
وجاءت هذه الخطوة على أنقاض انسداد سياسي داخل مؤسسات الحكم استمر أشهرا حمّل سعيد مسؤوليته للبرلمان ولرئيس الحكومة، الذي حسم موقفه منه منذ أن ارتمى في أحضان الائتلاف الحاكم المكوّن بالخصوص من حركة النهضة وقلب تونس. وقد اعتبر ذلك خيانة للتكليف، ينضاف إليه التعديل الوزاري الذي صادق عليه مجلس النواب في يناير الماضي، والذي أقال بموجبه رئيس الحكومة المعزول ما عُرف بوزراء الرئيس في حكومته. وهي خطوة استفزازية تبعتها خطوات أخرى من النوع نفسه أرادوا من خلالها عزل الرئيس في قرطاج، وأن لا يتجاوز دوره التوقيع والمباركة، بدون حق إبداء الرأي أو الاعتراض على واقعية سياسية من هذا النوع، تجسّدت في عائلات مالية وواجهات سياسية استمرأت الدولة، وعمّقت نفوذها واستفادت تاريخيا، ولم تهتم بمصالح الشعب ومطالبه الحيوية. وليس مستغربا محاولات تصدّي المنظومة السياسية والبيروقراطية السائدة لهذا المسار، ورغبتهم في قهر الإرادة الشعبية وتطلّعات الناس لتونس أخرى مختلفة، وهم يحرّكون بقوة الواجهات الإعلامية والسوق المالية والحزبية للدولة العميقة لمنع التغيير، ووقف رغبة فئة كبرى من التونسيين في التحرر من ربقة الاستبداد العتيق، والفساد المستشري، المقنّن بديمقراطية شكلية ما بعد الثورة. وسلوكهم السياسي، وسوء تدبيرهم، وفشلهم على جميع الأصعدة، سمح بتغليب الضرورات السياسية على الاعتبارات القانونية، وبتفوّق الشرعية الشعبية على الشرعية الدستورية والنصوص التي خيطت على المقاس.

تونس في حاجة إلى إعادة تأسيس النظام السياسي وفق قواعد العدالة ودولة القانون واحترام الحريات العامة

ومع ذلك يبقى من الضروري استعادة الثقة في الحياة السياسية، بإعادة تأسيسها على قواعد جديدة تمنع العودة إلى المربع الذي استدعى الأزمة وانفجارها. والرهان اليوم هو على ملف الفساد المتغلغل في بنية الدولة والنخب السياسية الحاكمة طيلة سنوات ما بعد الثورة، وتلك أولوية مؤكدة تماثل الإصلاح السياسي والدستوري. ومن الطبيعي توسيع نطاق الإجراءات الاستثنائية، لمواجهة الخطر الجاثم الذي يهدد كيان الوطن، وأمن البلاد واستقلالها ويتعذر معه تسيير دواليب الدولة. أتون الصراعات التي عمقت الهوة بين العائلات السياسية، وبات من الصعب التقاؤها على المصلحة العليا للتونسيين استهلكت دورتين برلمانيتين. لم يجسّدوا خلالهما أيّ مظاهر للعدل، أو احترام القانون والشفافية في تسيير الدولة. على نحو يشي بمركّب المنفعة الذي تملّكهم، وأولويات المصالح والانتهازية التي احترفوا لأجلها التموقع ضمن معسكر الفساد السياسي والمالي والإعلامي، ومناصرة دولة الفئات المتنفّذة والإقطاعية السياسية وواجهاتها الإعلامية التي تلهث وراء الارتزاق والتكسّب، ولم يكن ممكنا إدارة الشأن العام بنظام سياسي هجين ومشوه، وسلطة تنفيذية لها رأسان متطاحنان، رئيس جمهورية شبه معزول في قصر قرطاج، ورئيس حكومة خاضع لتوجيهات رئيس البرلمان ويخدم مصالح لوبيات المال. تونس في حاجة إلى إعادة تأسيس النظام السياسي وفق قواعد العدالة ودولة القانون واحترام الحريات العامة. فالأحزاب التي حكمت طيلة عقد من الزمن، لم تضف شيئا يُذكر في ما يخصّ القدرات المؤسّساتية ومحاربة الفساد، أو كفاءة التسيير الإداري عبر تنظيم مهامها وتطوير آلياتها وفق منطق مغاير، اشتغلوا فقط على خطاب الأزمة ودمّروا البلد، وقضيتهم اليوم ليست الديمقراطية بقدر ما هي مصير تنظيماتهم نفسها. لذلك يطرحون تقديم أي تنازلات، بعضهم كما ذكر الكاتب المصري عبد الله السنّاوي، يتذكّر الحوار عندما يخرج من السلطة أو يتهدد وجوده فيها، ويتذكر الثورة والديمقراطية والحرية والمسار الدستوري، عندما يُطرد من الحلبة السياسية، ليس وهو في مركز السلطة. والعاهات الموجودة في الساحة الحزبية تنطبق على المنظمات الوطنية، وإذا ما ثبتت الاتهامات بحق بعض الأحزاب بتلقي تمويلات أجنبية أثناء الانتخابات النيابية، فإن سيناريو إلغاء نتائج الانتخابات وحل البرلمان ليس مستبعدا بقرار قضائي مستقلّ ونزيه.
الضرب على مراكز الفساد قضية حقيقية وملحة، بعد أن تعفنت الحياة السياسية التونسية، وأهدرت الأحزاب الحاكمة طيلة عقد من عمر الثورة قواعد نزاهة الحكم وضرورات العدل الاجتماعي. وما يحدث هو لحظة تحول جوهرية، ومعركة استرداد حقوق الشعب الذي وقع التنكيل به، وهي في الوقت ذاته قضية استعادة دولة وتخليصها من براثن الفساد ومصّاصي الدماء، وإن كانت مفعمة بالمخاوف والتحدّيات، فالأحزاب الوطنية ذات التوجّه الداخلي عددها قليل مقارنة بالأحزاب التي تميل للخارج، وتتلقّى دعما وتمويلات مشبوهة من أطراف إقليمية ودولية، ولا يخفى على أحد ارتباط أغلب الأحزاب بسياسة المحاور، وتغوّل الجماعات المرتبطة بالخارج على طريقة المشهد السياسي اللبناني وطائفيته الحزبية. وما لم تستوعبه أغلب المكوّنات الحزبية هوّ أنّ التونسيين لم يعد يُغريهم خطاب الوهم والتناحر الأيديولوجي والمعارك الهامشية، أو الاستقالات والمشاكل الداخلية للأحزاب التي لم تضف شيئا يذكر ضمن تجربتها في الحكم، بل يهمّهم الالتفاف حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية، ومقدرتهم الشرائية، باعتبارها الأولويات الجوهرية في ذهن الذين يرغبون في تنمية عادلة وتحقيق مطالب الثورة، ويبحث سعيد منذ تجميد البرلمان سبل حل الملف الاقتصادي عبر عقد لقاءات ومشاورات مع رؤساء كبرى المؤسسات المالية بانتظار الإعلان عن حكومة جديدة بمقاييس مغايرة، جوهرها الكفاءة والإخلاص للأمانة وخدمة مصالح الناس، والشرعية الشعبية التي وفّرت الغطاء السياسي بالقبول والتفهم، ومشاعر الابتهاج العامة لقرارات الرئيس، التي عكست الضجر من القوى السياسية المهيمنة منذ سنوات، يأمل أصحابها في أن تكون خطوة تصحيحية لمسار سياسي راكم الفشل منذ عقد من الزمن، ومرحلة جديدة من تاريخ تونس، لتنظيف الحياة العامة، وتكريس دولة المواطنة الحقيقية والعدالة الاجتماعية والمساواة أمام القانون.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الصعيدي المصري:

    حتى تونس لديها وفرة ممن يطبلون للديكتاتورية بقفازات حرارية .. الفارق بين مصر وتونس .. في هذه الناحية .. هو ان ماسكي الدفوف في تونس ليسو من عينة احمد موسي واديب والابراشي وبكري .. بل يتميزون باللباقة على نحو اكثر فصاحة .. لكننا في النهاية نستطيع تعميم ما نستخدمه في وصفهم .. بما لن يسمح مراجع التعليقات بنشره ..

إشترك في قائمتنا البريدية