ينسب إلى بيكاسو أنّه قال ذات يوم: «في سنّ الستّين، يبدأ شعور المرء بأنّه فتى. ومع ذلك فقد فات الأوان». ولا أدري تحديدا متى قال ذلك، ويبدو من ظاهر العبارة، أنّه قال ما قال وقد تخطّى هذه السنّ. وقبله بقرون، قال الشاعر المخضرم سحيم بن وثيل الرياحي:
وماذا يدّري الشّعراء منّي/ وقد جاوزت حدّ الأربعينِ
وهو من قصيدته التي اشتهر مطلعها أكثر منه، بل توهّم البعض أنّه للحجّاج بن يوسف:
أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا/ متى أضع العمامة تعرفوني
وليس هنا مجال الخوض في الشاهد النحوي على أنّ نون الجمع قد تعرب بالحركة على النون، في قصيدة على الوافر مكسورة القافية؛ إذ جاءت «الأربعين» مكسورة النون، لضرورة الشعر. إنّما تعنيني دلالة البيت، وقد روي باختلاف يسير (يبتغي محلّ يدّري). وأنا أميل إلى الفعل «يدّري» الذي يحمل في هذا السياق، على معنى الختل والخديعة؛ وهو يناسب غرض الفخر الذي تنضوي إليه القصيدة. وحاصل البيت أنّ المتكلّم تخطّى الأربعين و»شاخ»، وجرّب ما جرّب من تقلّبات الأيّام والناس، وعرف الخديعة والمكر؛ فلا شيء ينطلي عليه أو يتمّ، من طمع الشعراء في خديعته. وشتّان بين صاحبنا سحيم «شيخ في الأربعين» وبيكاسو «فتى في الستّين»، بل بين سحيم والأمريكي هنري ميللر الذي يقول: «في الأربعين فقط، بدأت حقّا أشعر بالفتوّة، وكنت في تلك السنّ مهيّأ لها»، ويقول وهو في انعطافة الثمانين إنّه أكثر مرحا ممّا كان في سنّ العشرين أو الثلاثين. وأين هو من الشاعر العباسي عَوف بن مُحـلِّـم الخُزاعي:
إن الثمانين وبُلِّـغْـتَـها/ قد أحوجتْ سمعي إلى ترجُمانْ
وأبلغ منه قول ابن حمديس في وصف عصاه:
كأنّها وهي في كفّي أهشّ بها على/ الثمانين عاماً لا على غنمي
كأنّني قوسُ رامٍ وهي لي وترٌ/أرمي عليها رميَّ الشيب والهرمِ
بل بين بيكاسو ومحمود درويش:
فلتحتفلْ مع أَصدقائكَ بانكسار الكأس
في الستين لن تَجِدَ الغَدَ الباقي
لتحملَهُ على كَتِفِ النشيد، ويحملَكْ
وليس هنا مجال الاستفاضة في تصوّر العرب للعمر، وفيه لطائف لا نزال نديرها على ألسنتنا، فنقول لامرأَة الرجل وإِن كانت شابة: هي عَجُوزُهُ، وللزوج وإِن كان حَدَثاً: هو شَيْخُها. بل يقال في الفصحى كما في العاميّات، للرجل عَجُوز وللمرأَة عَجُوز. ولا مجال أيضا لبسط القول في مواقف الشعراء والفلاسفة من الموت، فهذا مبذول للقارئ. وإنّما هذه وقفة أملاها رحيل هؤلاء المبدعين الذين أتاحت لي ملتقيات الشعر أن أتعرّف إليهم؛ عن بعد وعن قرب، مثل نزار قبّاني وعبد الوهّاب البيّاتي وممدوح عدوان ومحمود درويش وسميح القاسم ومحمّد الصغيّر أولاد أحمد وأمجد ناصر ومحمد القيسي وعز الدين المناصرة ومريد البرغوثي وآخرهم سعدي يوسف… هكذا صرنا كلّما هرمنا، نرى أصدقاءنا مثلهم مثل كلّ الكبار الاستثنائيّين الذين غنمنا من صداقة نصوصهم، يرحلون الواحد تلو الآخر. أمّا لماذا هم استثنائيّون، فلأنّ أبطال المجتمع الليبرالي الحديث، كما يقول ريتشارد رورتي، ليس العلماء أو الفلاسفة؛ بالمعنى الذي استتبّ للفلسفة قديما، وإنّما هم الأدباء والروائيّون والشعراء. وحجّته لذلك أنّ الشاعر يضفي على الحياة معنى، فيما غيابه يفضي إلى تصحّرها. والمسوّغ لذلك في تقديره، أنّ الخيال منبع للحرّيّة، بما هو مصدر للغة؛ فالشعراء أمراء الكلام مثلما هم أمراء الخيال؛ لما يمتلكه الشعر من قدرة على التحرّر من كلّ قيد، وهو المُشرع على التعدّد والتنوّع. بل هو يذهب إلى القول بأنّ الشعر «سرّ إلهيّ إذ هو مرتكز المعرفة، ومجال فهم العلم وسنده، مثلما هو في الوقت نفسه، مصدر لكلّ أنساق التفكير الأخرى.» ولكنّه في نظره، ليس بديلا لديانة توحيديّة، ذلك أنّ وظيفته أمسّ بصيغة لائكيّة لنوع من تعدّد الآلهة؛ بدأ أو نشأ مع الرومنطيقيّين.
ولذلك نحزن عندما نرى شاعرا أغنى حياتنا، يرحل؛ وقد كاد يرسخ في أذهاننا أنّ الموت ليس من عاداته. لكن عزاؤنا أنّ كلّ هؤلاء أحياء عند قرّائهم يرزقون. ومع ذلك لابدّ من إشارات خاطفة، حتى يتّضح السياق الذي أنا به؛ ففي العصور السحيقة، كانت الأبيقورية تدحض فكرة الموت؛ فهو في تصوّرها لا شيء. وهو موقف تلقّفه فلاسفة الأزمنة الحديثة مثل سارتر الذي يضع فكرة الموت خارج المشروع الوجودي. على حين أنّ هيدغر يبذل قصاراه حتى يتعرّف إليها في غور سحيق من أعماق تجربتنا، أو ما يسمّيه (الكينونة ـ من أجل ـ الموت)؛ وأنا هنا إنّما أترجم العبارة عن الفرنسيّة، ولا أعرف الأصل الألماني. ولعلّ استعمال «لام المآل» التي تأتي لبيان العاقبة أفضل، وأكاد أقرّر حدسا أنّ الأصل يناسب قول أبي العتاهية «لِدُوا للموت» أو لأقل «الكينونة للموت».
في شعرنا العربي الحديث، أكاد لا أستثني سوى شاعرين استغرقتهما تجربة الموت على نحو لافت هما بدر شاكر السيّاب ومحمود درويش. وأحدس من شعر درويش، ومن حواراته أنّ لغته ترتبط بالعمليات الذّهنيّة على قدر ارتباطها بالأشياء. وأظنّ أنّ هذه مزيّته. وعلى حبّي لتجربة سعدي يوسف الشعريّة ـــ ولا تعنيني هنا مواقفه السياسيّة ـــ وهي تجربة كان لها أثر في شعر درويش في مرحلة ما، وفي بعض أبناء جيلنا؛ فأنا أقول كلّما سُئِلْتُ عن الفروق بين الشاعرين إنّ شعريّة سعدي هي شعريّة الأشياء، والقدرة الفائقة على ملامستها باللغة، وهو الشاعر الماهر في استخدامه الخاصّ للغة وتطعيمها ونحتها؛ وتخليصها من الإسراف في التّنغيم، وهو الذي يعيد تركيبها في الميديوم/ الوسيط الشعري؛ وذلك كلّما تخفّفت الشّعريّة من شعريّتها أو مِمّا زاد منها على الحاجة أو من فضل القول.
وفي هذا يلتقي الشاعران، ولكنّ درويش يضفي على الأشياء هذا البعد الذهني أو الميتافيزيقي العميق؛ وكأنّه يكتب تحت وطأة حسّ فقدانها. ولذلك نقف في «سرير الغريبة» و»كزهر اللوز أو أبعد» و»أثر الفراشة» و»لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»… على الشاعر في محمود أي المستبصر المتأمّل في هويّة نصّه أكثر من هويّته الفلسطينيّة، وفي موته وقد امتلأ بكلّ أسباب الرحيل؛ وليس الفلسطيني في محمود. وقد يكون في تجربته مع الموت ما يغري بعقد مقارنة بينه وبين السيّاب، أكثر ممّا بينه وبين سعدي الذي كان يعيش حياته بالطول والعرض؛ حتى في آخر ما كتب، أي وصيّته بحرق جثمانه. وقد يكون في هذه المقارنة وجه حقّ، فما يجمع هؤلاء هو هذه القصيدة الجديدة المتحرّرة من «الدغمائيّة الدينيّة»؛ فلا أحد منهم كان يغْذُو الرجاء في عالم مفارق أو مثاليّ، أو كان «في انتظار غودو» الأصمّ الأبكم، أو هو كان كالفيلسوف الميتافيزيقي الذي ينشد «تخطّي الزمن والصدفة». وفي ما عدا ذلك، ودون أن أقطع بجواب، أو أنزع إلى صيغة التفضيل؛ فالسيّاب في قصائده عن الموت، «غنائيّ» وبكّاءُ شكّاء؛ وليس دراميّا. وتجربة درويش مع الموت؛ أعمق بكثير من تجربة السيّاب، حيث الذات تكابد المرض، موكولة إلى قدرها، وهي تعاني من وطأة عالم ثقيل أعمى؛ لا طاقة لها على تحمّله. ودرويش سواء في «جداريّة» وهي منحوتة رمزيّة، أو في «لاعب النرد» وهي أشبه بـ»قصيدة الختام» التي يلقيها الممثّل عند انتهاء المسرحيّة، ذو نفس «ملحميّ» وهو ينقلنا بسلاسة إلى عالم العزلة أو العدم، والـ»بشارة» بزمن الريبة والشكّ؛ وليست بـ»هذيان في غمرات الموت» كما هو في قصيدة مالارميه. ولا أحبّ أن أحصر مرموز القصيدة عند درويش في معنى الموافقة أو المصادفة، حيث يغدو كلّ شيء «صُدفويّا» أو محلّ ريبة، بما في ذلك المطلق الديني أو الميتافيزيقي.
و»لاعب النرد» قصيد غريب، على بساطته الخادعة، ولا شبيه له بقصائد محمود. ولا صلة له بـ»رمية النرد» لمالارميه، أو بمدارها الشعري؛ وهو على «معلّم» أو «ربّان» تغرق سفينته، ولكنّه قبل أن تبتلعه الأمواج، ويقضى الأمر يتأهّب لرمي زهر النرد، في تحدّ صارخ، لسماء لا تستجيب لملهوف. ومهما يكن، فعالم الموت يظلّ لونا من الحقائق اللّطيفة ومن دخائل الذّات؛ ونحن «مائتون» جميعا، لكنّ الميّت يموت وحده.
على أنّ ما يشدّني أكثر عند بعضهم، هو ما أسمّيه «الموت المرح» كما في قصيدة سعدي الأخيرة، وهي وصيّته كما أسلفت: «… الآن استرحتُ كما أردتُ: وصيّتي كتبتْ/ وكُلفة مَحرَقي دُفعتْ/ إذًا، فلأقترحْ نخْبا/ لأرفعْ عاليا كأسي الرويّةَ/ إنّني أحيا». وكأنّه هنري ميللر يقول وهو في الثمانين، بروحه الطليقة، إنّه بتقدّم السنّ الذي لا يعنيه؛ بل ينفيه: «مثلي الأعلى الآن أن أتحرّر من كلّ المثل العليا، من كلّ المبادئ، من كلّ النهايات، ومن كلّ الإيديولوجيات. أريد أن أغوص في محيط الحياة، كالسمكة في البحر».
*كاتب من تونس
لوحي العمر كلّياتُه العابرة للحضارات، كما في النحو واللغات.
إذا عرف الشعر منذ امرأ القيس بديوان العرب. فإنه منذ الخمسينات يسير ليصير غربة العرب.
كلما تقدم الإنسان في السن يزداد تفكيره في الموت وكيف ستكون الخاتمة.
عن نفسي لا أخشى الموت ولا أخشى سكراتها وفق الوصف الديني.
عزائي الوحيد أنني سألقى الله وأشاهده بأم عيني كما أنني موقن بأنني سأرى محمدا عليه الصلاة والسلام الذي لم أره في الدنيا. وبعدها إن كانت جنة أو نار فذاك سابق في علم الخالق أو لعل الرحمة تسع الكثير.
على كل ثمة أمل وانتظارات متفاوتة في الزمن.
كيف عرفت ان كل الناس يزداد تفكيرهم بالموت مع تقدم السن إلا أنت المنزه عن هذا التفكير ؟؟ هل تعرف الفرق بين النرجسية والأنانية والأنانوية ؟؟ ابحث في كل من هذه كي تعلم توصيفك بالضبط !!!؟
السيد الناقم :
ردكم عام الاخ ماعون كان قاسياوفيه الكثير من التجني والتحامل ولا يستحق كل هده الاوصاف
كلامً الاخ ماعون في فقرته الاولى سليم ومنطقي
وافق شن طبقه !! ولله في خلقه شؤون !!