لن يأتي …

لم تأتِ، وعلِمَ شاعرنا محمود درويش في قصيدته أنها وبعد طول انتظار لن تأتي، ومن ثَمّ فهو يعيد ترتيب المساء بما يليق بخيْبتِه وغيابها، يُطفئ نار شموعها، ويُشعل نور الكهرباء، يشرب كأس نبيذها فيكسره، يُبدّل موسيقى الكمنجات السريعة بالأغاني الفارسية، يرتدى بيجامة زرقاء، ويجلس بارتخاء القرفصاء على أريكتها فينساها وينسى كل أشياء الغياب.
منذ كم عقدٍ من السنين ونحن ندرك أن السلام مع الكيان المُحتل لن يأتي، ورغم ذلك لم نُعِدْ ترتيب أوراقنا بما يليق بخيبتنا وانسداد الآفاق. السلام المُمكن مع الكيان الإسرائيلي هو المرادف للاستسلام، ومفتاحه هو التنازل عن القدس، الذي يعني التنازل عن القضية الفلسطينية بأسرِها، وبغيرِ إهدائهم (الإسرائيليين) القدس محور الملف الفلسطيني فلن يكون هناك سلام. ولأهمية القدس سياسيًا ودينيًا كان على الصهاينة إنكار التاريخ، لأنه كما يقول عبد الوهاب المسيري، ضرورة وجودية بالنسبة إليهم، فينفون أن يكون للعرب تاريخ، حتى لا يترتب عليه مطالبة بالحقوق، وينكرون كل الحقائق التاريخية والدينية والأثرية للقدس، بل كان عليهم نفي تاريخ اليهود في المنفى، لأنه لو كان لهم تاريخ في بلاد العالم التي عاشوا فيها لفقدت الصهيونية مبرر وجودها.
القدس والاستيلاء الكامل عليها هو مرتكز الانطلاقة الكبرى لدولة الأحلام الإسرائيلية المنشودة، بربِّكم أخبرونا ما سر اتفاق اليمين واليسار الإسرائيلي وكافة طوائفهم على اختلاف معتقداتهم وتوجهاتهم على أن القدس هي العاصمة الأبدية لإسرائيل؟ لماذا عزل الاحتلال القدس عن المفاوضات، ولماذا تجنبت حكوماته المتتابعة الدخول في مفاوضات ينتج عنها أي التزامات بشأن القدس؟
وبعد ذلك نأمل في المفاوضات لإحلال السلام؟ قلنا إنه لن يأتي…
المفاوضات التي سئِمت مِنّا بعد عقود طويلة، تخللتها إجراءات إسرائيلية تحرق أغصان الزيتون، وتقتل آمال السلام، بناء المستوطنات، مصادرة ونزع الملكيات العربية، هدم المنازل والمدارس والمنشآت، تهجير الفلسطينيين بإشاعة الفزع عن طريق المجازر والمحارق، إبعاد الشخصيات المُؤثرة من القدس، منع حق العودة للفلسطينيين، الاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى، نقل ملكية الكهرباء إلى بلدية الاحتلال، تغيير أسماء شوارع المدينة وطمس الأسماء العربية والإسلامية، بناء أحياء يهودية بين الأحياء العربية للمدينة وحفز الإسرائيليين للعيش فيها. كل ذلك من أجل تهويد القدس وإحداث تغيير ديموغرافي لصالح ادعاءاتهم بالحق التاريخي لهم في المدينة، ولا عزاء لمن ينتظرون سلاما لن يأتي…
كيف يمكن التعويل على المفاوضات مع طرف لا يؤمن بالسلام العادل من المنظور القانوني والدولي؟ لقد أثبتت تلك المفاوضات التي جرت عبر عقود إلى اليوم شيئًا واحدًا، أنه لا الطرف الفلسطيني ولا الإسرائيلي لديهما القدرة على حسمها، فيبقى الصراع حينئذ مفتوحا لا أُفق له. فقط هو تنازل الفلسطينيين عن حقهم السياسي والديني في القدس هو ما يدفع المفاوضات إلى الأمام، فالقدس لم تجد لها موطأ قدم في كامب ديفيد، ولا أوسلو، ولا وادي عربة، فكيف يأتي السلام؟ لن يأتي…
مؤسسة راند إحدى المؤسسات البحثية المرتبطة بصناعة القرار في الولايات المتحدة، خلصتْ في تقرير لها إلى أنه في حال ارتباط قيام الدولة الفلسطينية بحل قضية القدس، فإن قيام هذه الدولة أمر مشكوكٌ فيه. إننا إذ نصر على التشبث بطريق المفاوضات العقيمة وننتظر من خلالها إحلال السلام، نشارك الكيان الإسرائيلي تنفيذ سياساته الرامية إلى استهلاك الوقت لتتمكن حكومة الاحتلال من استكمال بناء المستوطنات وتهويد القدس وطمس هويتها ومصادرة أكبر قدر من الأراضي العربية، حتى إذا جلس الطرف العربي الفلسطيني إلى طاولة المفاوضات كالعادة لم يجد شيئًا يتفاوض عليه. دعوة إلى العودة إلى المفاوضات، ثم التسويف بالجلوس، ثم خلق العقبات، فإذا جلسوا تعهدوا، ثم لا يقومون بالوفاء، فينحصر الحديث العربي عن تلك التعهدات والإخلال بها، ويضيع الوقت في المُطالبة بتنفيذها، ثم تكون هناك دعوات جديدة على أرضية جديدة وعودة إلى المربع الأول، وهكذا دواليك، فهي سياسة تضييع الوقت واستهلاكه من الطرف الإسرائيلي لحين السيطرة الكاملة على المدينة ذات الرمزية الدينية والوطنية والقومية. هذه السياسات الإسرائيلية التي نجحت في ظل ضعف الإرادة العربية أو غيابها، قد أتت ثمارها وحققت مكاسب كبيرة، أعطت دونالد ترامب مساحة كافية وأرضية صلبة، لكي يعلن أن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وينقل السفارة الأمريكية لدى دولة الاحتلال من تل أبيب إلى القدس، وفي كل عقد يمرّ سننتظر مزيدًا من السيطرة الإسرائيلية على القدس، تتبعها قرارات أمريكية داعمة للكيان المحتل ومهمشة للطرف العربي الفلسطيني.
لقد كان هنري كسينجر صريحًا حين قال إن الفلسطينيين والعرب يجب أن يدركوا أنه لا يكفي الاعتراف بوجود إسرائيل لكي يوافق الإسرائيليون على تأمين كل حقوقهم ومطالبهم، بل يجب أن يعتادوا على تقديم التنازلات والتضحيات لطمأنة الإسرائيليين، وأن أي تسوية للنزاع العربي الإسرائيلي لن تقوم على أساس الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة خلال حرب يونيو/حزيران 1967.

القدس والاستيلاء الكامل عليها هو مرتكز الانطلاقة الكبرى لدولة الأحلام الإسرائيلية المنشودة

فأي سلام ننتظره من خلال المفاوضات التي لم تعدْ سوى وسيلة لحفظ ماء الوجوه أمام الشعوب، لن يأتي… ما يجري الآن هو مشاركة عربية واضحة في سياسة استهلاك الوقت الإسرائيلية، بالتوازي مع التطبيع الذي أوشك بناؤه على الاكتمال، من أجل الوصول إلى التنفيذ الحرْفي لصفقة القرن، اعتمادًا على تكبيل الشعوب العربية وقتْل الروح الثورية عن طريق الأنظمة الاستبدادية الحليفة للكيان الصهيوني وراعِيه الرسمي (أمريكا). التعويل على أبناء الشعب الفلسطيني لا غيرهم، فكما قال الشافعي: “ما حكّ جلدَك مثلُ ظُفرك”، انتظار الشعب الفلسطيني لحلول عربية لن يُقدم شيئًا للقضية، وانتظار مصالحة الفصائل في إطار مشروع وطني جامع ربما يكون في الوقت الحالي أضغاث أحلام، فليس لها إلا أن يظلَّ الوعي حيًا وجمرة المقاومة والنضال مُتّقدة.
نضال الفلسطينيين وحدهم – خاصة في الحفاظ على هوية القدس – هو العائق الأكبر لدى الكيان الصهيوني، ويقيني أن ثقافة المقاومة والتحرير تأصلت في ذلك الشعب ينالها مع حليب الأم، وسيكون على القيادة السياسية استغلال الحراك الشعبي أو الموت سياسيا بعرق الخجل أمام الجماهير، وبدون ذلك لن يأتي السلام، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود:

    نحن الآن في عصر الجاهلية! فالقبائل (الدول) العربية تتقاتل فيما بينها وتحاصر بعضها البعض!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول حسن محمد:

    القضية الفلسطينية صارت غطاء العرايا من العرب الهاربين. هم يحاولون إقناعنا بأنهم وطنيون مع أنهم باعوا أنفسهم للشيطان.

إشترك في قائمتنا البريدية