لوركا: نثر غرناطة وشعر نيويورك

حجم الخط
5

في سنتي 1916 و1917 شارك فدريكو غارثيا لوركا (1898 ـ 1936) مع نفر من زملائه في أربع رحلات داخل وسط وشمال غرب إسبانيا، نظمها أستاذهم في الجامعة مارتين دومنغيز بيروتا؛ وأراد منها تعريفهم على تاريخ إسبانيا الثقافي والمعماري، إلى جانب ميادين احتكاكها مع ثقافات أخرى، وخاصة تلك العربية في الأندلس. وفي نيسان (أبريل) 1918 نشر لوركا مختارات من مذكراته حول تلك الرحلات، صدرت في غرناطة تحت عنوان «انطباعات ومناظر»؛ وكان ذاك هو أوّل منشوراته، والوحيد النثري بين أعماله الشعرية والمسرحية اللاحقة. ولا أجدني، هنا، مرتاحاً إلى توديع هذه السنة، 2018، دون التوقف عند ذكرى ذلك الكراس الجميل؛ الطافح بالفرح الشبابي والتوثب الشعري، المبشّر بشخصية شاعر محلي وكوني كبير، والمُنذر بإسبانيّ أصيل منحاز في الآن ذاته إلى أندلس عربية طوّرت ذائقته ومنحت شعريته معجماً فريداً وإيقاعات رفيعة.
قرأت الكتاب باللغة الإنكليزية، تحت عنوان «تخطيطات إسبانيا»، بترجمة بيتر بوش (مترجم خوان غويتيسولو وجوزيب بلا وبيدرو ألمادوفار)؛ وفي طبعة صدرت سنة 2013 عن منشورات «سيريف» في لندن، مزيّنة برسوم بديعة من الفنان والناقد التشكيلي جوليان بيل (صاحب المؤلف الرائد «مرآة العالم: تاريخ جديد للفنّ»). وفي التوطئة للترجمة اعتبر بوش، محقاً تماماً في الواقع، أنّ نصوص لوركا عن معمار إسبانيا ومظاهر عيش أبنائها، خاصة مشاهد الفقر والبؤس والخراب والتفسخ، شكّلت قطيعة صريحة مع مدرستين في هذا الصدد هيمنتا على الأدب الإسباني، تزعمهما شاعران: أنتونيو ماشادو («إنهم يحتقرون ما لا يعرفون!»)، وميغيل دي أومامونو («فليبتكروا الجديد، بحقّ السماء!»).
وفي إهاب الموسيقيّ الذي كان عليه، يصف لوركا افتتانه بالتراتيل الدينية الغريغورية التي أصغى إليها في سانتو دومينغو دي سيلوس، ولكنه يعبّر عن صدمة هائلة حين يعرب له الرهبان عن كراهيتهم للموسيقى الكلاسيكية لأنها «حسية» و«مغوية»؛ ثمّ يُصاب بخيبة أمل حين يعزف للرهبان، على آلة الأورغ، مقطعاً قصيراً من سيمفونية بيتهوفن السابعة، فلا تحرّك فيهم ساكناً! وفي غرناطة يكتب لوركا سيمفونية من طراز آخر، قوامها الكلمة هذه المرّة، حيث حيوات اللون والطير والأجراس، وحيث قصر الحمراء، وآخر أحياء العرب في البيازين؛ حتى أنّ مسحة الأسى التي تطبع مستهلّ الكتاب تبدو أشبه بمرثية لذلك الماضي التليد. يكتب لوركا، مخاطباً قرّاء كتابه: «لعلكم سوف تلمسون نوعاً من كآبة غامضة. لسوف ترون أشياء بهتت وانطوت، وأشياء تُصوَّر على نحو مرير، إذا لم يكن حزيناً. المشاهد التي تتعاقب في صفحات الكتاب هي تمثيلات للذاكرة، ولمناظر الطبيعة، وللبشر. ولعلّ الواقع لا يرفع رأسه الوضاء كالثلج، لكنّ الاستيهام ــ إذْ تتآكله حالات الوجد الداخلية ــ يرشق نيرانه الروحية على الطبيعة الخارجية، فيعظّم الصغير ويسبغ الكرامة على القبيح، مثل قمر مكتمل يفيض على حقول مفتوحة».
وخلال الطور الأخير من تجربته الشعرية، الثكلى التي تمّ وأدها مبكراً كما يتوجب القول، كان «ديوان تماريت»، أي مجموعة القصائد Casida والغزليات Gacela التي راجعها لوركا عام 1936 قبل أشهر من اغتياله؛ بمثابة شهادة نزيهة حول عظمة المنجز الشعري العربي، واعتراف صريح بالأثر الكبير الذي تركته القصيدة العربية الأندلسية على معمار الصوت والمعنى في مجمل إنتاجه. ولقد استخدم لوركا الكلمة العربية «ديوان» Divan ليصـــف اتحاد نفسه بجنوب إســـبانيا، أو «مملكة غرناطة» كما كان يحب وصفها، مستعيداً ماضــيها العربي المزدهر «الذي دمّره الجَهَلة من أحفاد الفاتحين الكاثوليك الجدد». وليس جديداً التذكير بأنّ قصائد هذه المجموعة تنسج على منوال الموشح، وتضيف إليه حسّاً من التعاطف الميتافيزيقي العميق مع العوالم المعدنية والنباتية والحيوانية التي تخلق النزاع الداخلي الخالد في طبيعة هي أكثر كمالاً من أن تكون مستقرة هادئة.
الطور السابق على «ديوان تماريت» تمثّله، جوهرياً، قصائد «شاعر في نيويورك»، التي تستبدل الإيقاعات التقليدية بالشعر الحرّ، والصور تصبح أكثر ميلاً إلى التمحور حول الذاتي والمجرّد، أو هي تختفي أحياناً لتُستبدل بلوائح طويلة من الموضوعات المتنافرة. وكان لوركا قد سافر إلى نيويورك عام 1929، مفتقراً إلى اللغة الإنكليزية (وربما إلى أية رغبة في تعلّمها)، فأفزعته الغابة الميكانيكية بما هي عليه وبما تمثّله من تعارض صارخ مع عناصر العيش والطبيعة والحياة في الأندلس. سريالية تلك المرحلة لم تكن إسبانية، بل فرنسية نمطية خالصة تتناول الوحشة والأسى والاغتراب والضياع والعماء بوصفها أعمدة المجتمع الحديث. وأيضاً، لعلّ من الخطأ القول بأنّ إقامة لوركا الأمريكية القصيرة كانت عقيمة في مستوى تأثيراتها السيكولوجية والجمالية، فلقد عاش تجارب مثيرة، وفتنته السينما الأمريكية وموسيقى الجاز وخصوصية الشخصية الشعرية الأمريكية، ووجد منابع هامة تطفيء ظمأه المزدوج إلى التراجيدي والشاذ في آن معاً.
وبين غرناطة 1916 ونيويورك 1929 لم تغب عن شعر لوركا تلك العناصر الناظمة الكبرى: الغناء، الرقص، الغيتار، الأندلس، الغجر… ومثلـــما فعـــل شعراء الموشحات العرب، استمدّ مادته من العالم المحيط به أكثر من عوالم الفكر وأغوار النفس، فاتسعت الأشـــياء المحســـوســـة إلى عـــالم ذي استثارات محلية وأبعاد كونية، وتحوّل العطر والضياء والشجر والأقمـــار إلى موســيقى طافحة بالمسافة والذاكرة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابوتاج الحكمة.شاعرسوري.باريس:

    النشيد الوطني لإقليم الاندلس لنفس الشاعر وقد اقتبسته للشعر العربي

    الراية البيضاء والخضراء
    رغم القرون من الحروب تضاء
    للسلم تعلن والأمان رفيقها
    من تحت شمسك ارضنا الفيحاء
    ياشعب فلتطلب شذى حرية
    والأرض قد شعت لها: الآلاء
    فهمالأجلك موطني والى الورى
    واليك يا اسبانيا الشماء

    انانريد بأن نعود على الورى
    دارالضياءزهت بها العلماء
    لنسود مثل جدودنابحضارة
    ويشع في روح الأنام :عطاء
    يا شعب فلتطلب شذى حرية
    والأرض قد شعت لها: الآلاء
    فهما لأجلك موطني والى الورى
    واليك يا اسبانيا الشماء

  2. يقول حي يقظان:

    من مظاهر «إفلاسِ» الأدب العالمي، أو بالأحرى «إهمالهِ إهمالاً مؤسْأسًا»، في الآونةِ الأخيرةِ، منحُ جائزةِ نوبل للأدب (وهي الجائزةُ المؤسْأسَةُ، أصلاً) لكاتب روائي يمجِّد الجانبَ الأخلاقي للاستعمار والجانبَ «اللاأخلاقي» للمرأة خاصةً، كمثلِ الكاتب الروائي الترينيدادي البريطاني فيدياذار سوراج-براساد نايبول (قبلَ أكثرَ من سبعة عشر عامًا)، أو الأسوأ من ذلك حتى منحُها (أي منحُ جائزة نوبل للأدب ذاتها) لمغني «روك» ليس من الأدب بأيٍّ من أجناسهِ من شيء، كمثلِ المغني «الروكي» الأمريكي بوب ديلان – وذلك كلُّهُ مرهونٌ، بالطبع، بمركزية الاختيار «الغربية»، وأقصد «الأوربية» و«الأمريكية» على حدٍّ سواء، وبعنصرية هذا الاختيار إزاءَ الشُّعوب الأخرى: إذ أن ثمة الكثيرَ الكثيرَ من الأديبات والأدباء من شعوب ما يُسمى بـ«العالم الثالث» لَيَسْتَحِقُّونَ هذه الجائزةَ حتى أكثر من استحقاقِ نظرائهم «الغربيين» لها، في حقيقةِ الأمر!
    [يتبع]

  3. يقول حي يقظان:

    [تتمة]
    ولكن، إذا كانَ لا بدَّ من الاختيار الموسيقي بـ«التفاتة ذكيةٍ ومنصفةٍ من لجنة نوبل» فعلاً، فإن من يستحقُّ جائزة نوبل للأدب بكلِّ جدارة، بحقٍّ وحقيقٍ، ليس المغني «الروكي» الأمريكي بوب ديلان، بل الشاعر والموسيقي والمغني «الجازيُّ»، أو «شبه الجازيِّ»، الكنديُّ ليونارد كوهين الذي غاب عن هذه الدنيا قبلَ سنتين، أو يزيد، والذي ترك لنا أعمالاً فنيةً تُحَفًا ستبقى خالدةً في عالمَيِ الشعر والموسيقى إلى أبدِ الآبدين. فمن جهةٍ، فإنَّ جلَّ ذلك الإبداع الشعري (الروحاني أو السوداوي)، إن لم نقُلُ كلَّه، كان، في الأساسِ، قد تألَّق بتأثير كبير من شعر فدريكو غارثيا لوركا بالذات (وإلى حدِّ أن ليونارد كوهين نفسَهُ كان قد سمَّى ابنته البكرَ التي كان يحبُّها حُبًّا جمًّا باسم «لوركا»، لصوتيَّتِهِ التأنيثيةِ المليحةِ). ومن جهة ثانية، فإنَّ كلَّ ذلك الإبداع الموسيقي (الجازي أو شبه الجازي)، تحديدًا، كان، في الأصل، قد تألَّق بتأثيرٍ أكبرَ من الموسيقى الإسبانية «البانْدُوورية» (أي نسبةً إلى البانْدوورْيَا Bandurria، وهي آلةٌ موسيقية شبيهةٌ بآلة الماندولين Mandolin، ومشتقةٌ اشتقاقًا شبهَ مباشرٍ من آلة العود العربية التي كانت سائدةً كآلةٍ رئيسيةٍ لعزف كافَّةِ الروائع الموسيقية الأندلسيةِ، أيام زمان)!

  4. يقول ابوتاج الحكمة.شاعرسوري (بورج حاليا) فرنسا:

    ★حي يقظان
    حي بن يقظان من فكر ومن ادب
    سما وأشرق فخر العالم العربي!
    [email protected]

  5. يقول أبو تاج الحكمة:

    فضلا عن شكري الاديب الأول المحرر/المحررة للتضامن الدائم مع قضيتنا الاجتماعية مع المغرب الشقيق الظالم

إشترك في قائمتنا البريدية