ليبيا إلى اين؟!

في الأيام القليلة الماضية انتقلت ليبيا من وضعية سيئة إلى أخرى أكثر سوءا بكثير. لقد انتقلت من تناحر عسكري وخلاف سياسي إلى تنازع أخطر يتعلق هذه المرة بشرعية الحكم في البلاد ككل. تحول الحكم الواحد الضعيف إلى حكمين، كل واحد منهما يضفي الشرعية على نفسه ويسحبها من الآخر.
المؤتمر الوطني العام المثير للجدل والمنتهية ولايته أعاد فجأة إحياء نفسه في طرابلس مقابل مجلس نواب في طبرق أفرزته انتخابات يونيو- حزيران الماضي. الأول عين رئيس حكومة جديدا والثاني ينتظر أن يعين بدوره حكومته. البرلمان الجديد اختار رئيسا جديدا للأركان وهيئة قيادة الجيش الحالية ترفض ذلك. وإذا ما استمر هذا التمشي فستصبح ليبيا ببرلمانين وحكومتين وجيشين ومع كل طرف تقف مجموعات سياسية وعسكرية مختلفة. هذا طبعا دون الإشارة إلى أي بعد مناطقي أو قبلي في هذه الانقسامات أو أي تصنيف آخر يتعلق بالإسلاميين من جهة والمعارضين لهم من جهة أخرى، أو بأولئك الذين ما زالوا يوصفون بـ «الثوار» مقابل أنصار «الثورة المضادة» أو بالقوى الأجنبية التي تساند هذا الطرف أو ذاك.
لا أحد من هذه الأطراف والموالين له استطاع أن يحسم النزاع عسكريا بالكامل والبلاد تبدو سائرة لا محالة، إذا ما تواصل هذا الوضع، إما إلى التقسيم أو إلى صراع مفتوح على الطريقة الصومالية ضمن كيان قد يوصف قريبا بأنه «دولة فاشلة». ولهذا فإن دول الجوار الليبي هم الآن الأكثر قلقا مما يجري هناك خاصة إذا ما تحولت ليبيا ملاذا آمنا لجماعات تكفيرية متشددة على غرار الحاصل في أجزاء كبيرة من سوريا والعراق. من هنا يشكل الاجتماع الأخير الذي عقد في القاهرة لدول الجوار الليبي وضم إلى جانب ليبيا كلا من مصر وتونس والجزائر والتشاد والسودان والنيجر بحضور عدد من المهتمين الدوليين بالملف فرصة جيدة للبحث عن حل.
المشكل أن المبادرة المصرية للتسوية في ليبيا التي خرج بها الاجتماع تفتقر ، على ما يبدو، إلى وضوح الآلية الكفيلة بإنجازها فضلا عن أن الموقف المصري المنحاز، كما يراه قسم من الليبيين، قد لا يساعد كثيرا. تقوم التسوية المنشودة، بعد الاعتراف بأن الشرعية العليا في البلاد يمثلها مجلس النواب المنتخب، على محاولة نزع سلاح كل الفرقاء المتحاربين تدريجيا وبلا تمييز وبشكل متزامن ثم محاولة جمع كل الفرقاء السياسيين الذين ينبذون العنف على طاولة الحوار وصولا إلى اتفاق ترعاه الأطراف الإقليمية ويحظى بالمساندة الدولية.
المعضلة هنا من سيقوم بجمع هذه الأسلحة وكيف وبأية مغريات أو ضمانات؟ وإذا كانت بعض الجماعات المتشددة، وهي كثيرة، تعتقد أنها ستكون مقصية من الحوار السياسي الذي سيعقب عملية الجمع هذه فما الذي يجعلها تتجاوب معها؟ وكيف السبيل لإخضاعها إن هي قررت عدم التسليم ومن سيقوم بذلك أصلا؟ إلى حد الآن لا تفاصيل حول عملية جمع السلاح هذه سوى تأكيد وزير الخارجية المصري سامح شكري ضرورة إنشاء صندوق دولي يعمل على جمع السلاح من المليشيات ومن ثم الإشراف عليها. كما أنه لا يعرف بعد أي دور يمكن أن يضطلع به مجلس الأمن في تمشي من هذا القبيل في ضوء ما أعرب عنه وزير الخارجية اليبي محمد عبد العزيز من أن بلاده تنتظر من مجلس الأمن «قرارا ورسالة قوية حول النزاع المسلح في ليبيا ووقف القتال».
الواضح إلى حد الآن أن ما يعرف بالمجتمع الدولي لا يبدي كبير اكتراث بما يجري في ليبيا رغم القلق المعبر عنه مرات عديدة، وهناك من يعتقد بأن الدول الكبرى ليست مستعدة للتورط من جديد في أي عمل عسكري في ليبيا خاصة أن الوضع الحالي لن يعالج جذريا إلا بقوات فاعلة على الأرض وهو ما لا تقبله هذه الدول كما لم تقبله في سوريا أو العراق مؤخرا رغم حجم المخاطر. لكن هل يمكن أن تسمح مثلا لأطراف أخرى بالتدخل في وقت لا يستبعد فيه بعض المراقبين عملية عسكرية مصرية ـ جزائرية هناك؟ وهل يمكن لواشنطن مثلا أن تعطي الضوء الأخضر لشيء من هذا القبيل وهي التي أبدى مسؤولوها امتعاضا من تصرف مصر والإمارات حين قررا قصفا جويا لبعض المواقع في طرابلس قبل أسابيع دون التنسيق معها أو حتى إخبارها، وفق ما نشرته مؤخرا صحيفة «نيويورك تايمز»؟
ثم ما الذي يضمن أن أي متدخل عسكريا هناك لن يمنى بهزيمة قاسية نتيجة تمرس المقاتلين المحليين ومعرفتهم الجيدة بالأرض التي يتحركون عليها؟.
أي تدخل عسكري إقليمي أو دولي لن يزيد الوضع الليبي إلا تعفنا وطالما لم يدرك الليبيون أن الحسم النهائي لأي طرف مستحيل وأن لا خيار سوى التسويات والتوافق فسيستمر الوضع في التدحرج إلى القاع.

محمد كريشان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول هادي بودربالة تونس:

    إنه وضع مؤسف لبلد غني بالموارد لكنه كان ضحية سياسة مجنونة على مدى أربعين عاما كان عنوانها الفشل في كل الميادين من صحة و تعليم و تنمية أدت إلى تصحر الحياة السياسية و المدنية و كأن الطاغية لم يكفه ذلك حتى ترك وراءه ترسانة ضخمة من السلاح تعهد عدد من الليبيين باستخدامها في التناحر فيما بينهم و تدمير بلدهم. إنها حرب الجميع ضد الجميع و شعار المرحلة البديل عن الحوار هو : إنما العاجز من لا يستبد برأيه و يفرضه بقوة السلاح. أما الدعوة للإلتزام بالديمقراطية و ما تقرره نتائج الإنتخابات فهي دعوة العاجزين الحالمين الضعفاء:
    و نشرب إذا وردن الماء صفوا و يشرب غيرنا كدرا و طينا.

إشترك في قائمتنا البريدية