سيبقى مسار الانتخابات عالقا ويُرجح أن رئيسي المجلسين ركزا اجتماعاتهما على مشروع تشكيل حكومة جديدة، يقتصر دورُها على الإعداد للانتخابات.
سواء استمرت الاجتماعات بين رئيسي مجلس النواب عقيلة صالح والمجلس الأعلى للدولة خالد المشري، مستقبلا، أم انقطعت، فإن الأنظار باتت مًوجهة إلى مُخرجات الملتقى التحضيري للمؤتمر الوطني الجامع. فبعد أكثر من عشرة اجتماعات موزعة بين القاهرة والغردقة، بمرافقة مصرية لصيقة، أعلن الرئيسان صالح والمشري عن «التوافق بين المجلسين» في شأن مشروع الوثيقة الدستورية، التي ستستند عليها الانتخابات «عدا بندين أو ثلاثة» حسب المشري. وهذه هي بالتحديد النقطة التي توقفت عندها اللقاءات السابقة، قبل اجتماعات الغردقة والقاهرة. ومحور الخلاف هو مطالبة القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء المتقاعد خليفة حفتر بحذف شرط التخلي عن الجنسية الثانية (الأمريكية) وكذلك إفساح المجال أمام العسكريين للترشُح للانتخابات الرئاسية بشروط. واستطرادا سيبقى مسار الانتخابات عالقا، مثلما ظل حاله منذ 2017 تاريخ انتهاء اللجنة الدستورية من إعداد مشروع الدستور. بهذا المعنى يُرجح أن رئيسي المجلسين ركزا اجتماعاتهما على مشروع تشكيل حكومة جديدة، يقتصر دورُها نظريا على الإعداد للانتخابات، مع التزام أعضائها بالامتناع عن الترشُح. وبتعبير آخر، فإن جوهر الاجتماعات لم يكن إزالة العقبات من طريق الانتخابات، وإنما تقاسمُ كعكة الحكومة المقبلة.
ويحقُ لليبيين أن يبتسموا حين يُعلن الرئيسان أن المرحلة التي توصلا إليها «متقدمة جدا» وأنهما «أنهيا بها الكثير من الجدل» واستطاعا «وضع العربة على سكة الانتخابات للوصول بأسرع وقت ممكن». الوصول إلى أين؟ قطعا ليس للانتخابات وإنما إلى التوافق على المحاصصة. وحسب المشري اتفق الطرفان على وضع القوانين الانتخابية «بتوافق تام بين المجلسين» وفي حال الاختلاف تُعرض مشاريع القوانين على الاستفتاء «لسماع رأي الشعب مصدر السلطات».
ويُعتبر رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة أكبر معارض لمسار التوافق بين المشري وصالح، فقد اتهمهما بعقد صفقات وصفها بـ «المشبوهة» لتقاسم السلطة وتعطيل إجراء الانتخابات. وما يغيظ الدبيبة أن غريميه يتحاوران ويتفقان على الإطاحة بحكومته، بينما يُصرُ هو على عدم تسليم السلطة إلا لحكومة مُنتخبة.
في غضون ذلك تواجه ليبيا مشكلة عويصة تتعلق بإيرادات وإنفاق العام الماضي، اللذين اعتبر خبراءٌ اقتصاديون أنهما تما بناء على «معلومات مالية غير ناضجة» ما يشكل عيبا أساسيا في النظام المالي الليبي. وهذا ما حمل الخبير النفطي محمد أحمد على القول إن إقفال حسابات 2022 تم افتراضيا ومن دون أي توثيق. وعلى هذا الأساس وجه تحذيرا من إقدام المجتمع الدولي على اتخاذ قرارات قاسية، قد تصل إلى تجميد الإيرادات النفطية، في حال تعذُر الوصول إلى حل مُقنع لموازنة العام الجاري. والنتيجة أن جميع الدول، بما فيها الدول النفطية، أقرت موازنات لسنة 2023 وبدأت تطبيقها، بينما تستعد الحكومة الليبية لإقفال دفاترها عن العام المالي المُنقضي.
وأظهرت بيانات مصرف ليبيا المركزي تراجع إيرادات الجمارك ومبيعات السوق المحلية من مشتقات النفط. كما كشفت عن تبذير كبير للمال العام، إذ أن نفقات النواب وصلت إلى 1 مليار دينار (20 مليون دولار) ونفقات المجلس الرئاسي إلى 775 مليون دينار (قرابة 126 مليون دولار) فيما أظهرت بيانات مؤسسة النفط (قطاع عام) أن إجمالي الايرادات في العام الماضي بلغت 130 مليار دينار (25 مليار دولار).
ويتضافر هذا الوضع المالي المتأزم مع تدهور الأحوال الاجتماعية التي تهدد بانفجارات فجائية لا يمكن التكهن بها مسبقا ولا السيطرة عليها، إذ ارتفع عدد الباحثين عن شغل إلى ربع مليون شخص، سجلوا بياناتهم في وزارة العمل والتأهيل. وهذا إخفاق كبير لدولة لديها من الايرادات ما يُمكنها من إطلاق مشاريع ذات تشغيلية عالية. وحسب الناطق باسم وزارة العمل عبد القادر بوشناف، هناك 100 ألف خريج سنويا يغادرون الجامعات بلا آفاق للحصول على فرصة عمل. ولا يستطيع القطاع العام أن يستوعب مزيدا من الموظفين، لأن عدد العاملين في المؤسسات العمومية يتجاوز حاليا مليونين وأربع مئة ألف موظف.
وفي هذا الإطار رصد ديوان المحاسبة، في آخر تقرير سنوي أصدره، ارتفاعا واضحا في باب الرواتب، قياسا على السنوات الماضية. وقُدرت الزيادة بـ5.8 مليار دينار مقارنة بالعام 2020، وبـ8.4 مليار دينار مقارنة بـ2015 الذي بدأ فيه تطبيق الرقم الوطني على الرواتب. أما المعطيات التي بثها صندوق النقد الدولي، فتُشير إلى تضاعف بند الرواتب ليصل إلى 17 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الليبي. وأظهرت الإحصاءات أن نسب البطالة تتراوح بين 19 و30 في المئة، وتختلف أنواعها بين من لا يجدون عملا ومن يحصلون على راتب لأنهم مسجلون في وظيفة حكومية، من دون أن يعملوا بصفة فعلية. وحسب الخبير النفطي د. محمد أحمد فإن ما نشره مصرف ليبيا المركزي، في شأن الإيرادات والنفقات الخاصة في السنة المنقضية، يقوم على «معلومات غير ناضجة، ما يشكل عيبا خطرا في النظام المالي». وكشف د. أحمد في مقال على صفحته بموقع «فيسبوك» أن إقفال حسابات 2022 «تم افتراضيا ومن دون أي توثيق» مُحذرا من أن هذه الممارسة تهدد استقرار البلد، وقد تحمل المجتمع الدولي على اتخاذ قرارات ربما تصل إلى تجميد الإيرادات النفطية، إذا ما تعذر الوصول إلى حل لمعضلة موازنة 2023.
مبادرة سياسية؟
المُؤكد أنه لا يوجد حلٌ للأزمات المتراكمة، الاقتصادية منها والمالية والاجتماعية، إلا بمبادرة سياسية. وكان رئيس مجلس النواب ورئيس المجلس الأعلى للدولة اتفقا على أن تُحيل اللجنة المشتركة بين المجلسين، الوثيقة الدستورية إلى المجلسين، كما أسلفنا، بُغية إقرارها، طبقا لنظام كل مجلس، أو عرضها على الاستفتاء الشعبي في صورة رفض أحد المجلسين اعتمادها. وفي الوقت الذي يدور فيه جدل بين الفرقاء الليبيين، في شأن تأمين الشروط القانونية والسياسية لإجراء الانتخابات، ومن ضمنها حلُ الأجسام العسكرية، وضم عناصرها إلى المؤسستين القضائية والأمنية، فاجأ رئيس حكومة الوحدة الدبيبة، الرأي العام الليبي بأداء زيارة إلى بيت آمر ما يسمى بـ«كتيبة 55 مشاة» معمر الضاوي، للاطمئنان على صحته، بعد تعرُضه لاعتداء في تونس.
وكان الدبيبة مرفوقا، في زيارة منزل الضاوي، بعدد من وزراء حكومتهً، ومنح صاحب البيت درع الوفاء، في حضور عدد من أهالي وأعيان ومشايخ ورشفانة. وتُعزى هذه العناية الشخصية إلى دور ميليشيا الضاوي في إخراج أنصار فتحي باشاغا رئيس الحكومة المكلف من مجلس النواب، من طرابلس وإجباره على البقاء في مدينة سرت. وتدل هذه الواقعة على أن بعض الساسة يرعون الأجسام العسكرية الخارجة عن الدولة، ويمولونها ويحمونها، بدل الاستجابة لإرادة الليبيين، الذين طالبوا في جميع المناسبات، بتخليص المدن من الجماعات المسلحة، وكذلك من الأسلحة الثقيلة والمتوسطة.
والأرجح أن هذه المسألة المُلغمة كانت موضوعة على مائدة الملتقى التحضيري لمؤتمر المصالحة الوطنية، الذي ناقش خمس قضايا رئيسة مثلما ذكرنا. وهذه المبادرة هي محاولة لاستئناف الاستعدادات لعقد المؤتمر الوطني الشامل، الذي أبطله هجوم قوات خليفة حفتر على العاصمة طرابلس في نيسان/ابريل 2019. وشاركت في الملتقى التحضيري الأحد الماضي، أكثر من 140 شخصية عامة في اجتماعات أتى المشاركون فيها من غالبية المكونات والأطراف والمناطق الليبية. واعتبر رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي أن الملتقى التحضيري لمؤتمر المصالحة، والذي تم بجهود الاتحاد الأفريقي «خطوة في الاتجاه الصحيح، لإرساء دعائم المصالحة الشاملة». وقاد فقي الوفد الأفريقي إلى الجلسة الافتتاحية للملتقى، الأحد الماضي في طرابلس، إلى جانب رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي. وتندرج مبادرة ملتقى الحوار في إطار السعي لإرساء دعائم المصالحة الشاملة، تمهيدا لإجراء انتخابات حرة وشفافة، بإشراف دولي. ولكن لسائل أن يسأل ما الغاية النهائية من عقد الملتقى التحضيري؟ أوضح رئيس المجلس الرئاسي المنفي في افتتاح الملتقى أن مفتاح الحل في ليبيا «ليس في محاصصة السلطة والنفوذ ولا في تقاسم الموارد والمال، وإنما في استعادة روح الوحدة والأخوة والعيش المشترك». وكشف المنفي أن «الرؤية الاستراتيجية لمشروع المصالحة الوطنية، أعدتها نخبة من الخبراء من الجامعات ومؤسسات الدولة الليبية». من هنا نفهم تصريح عضو المجلس الرئاسي علي اللافي، الذي أفاد في الكلمة التي ألقاها في ختام الاجتماعات، أن هناك وثائق ستصدر عن الملتقى لاحقا، وصفها بأنها «قرارات توافقية تشريعية وتنفيذية تساهم في استقرار ليبيا» مُلمحا إلى أن الملتقى ضم كل الأطراف السياسية «من أجل الوصول إلى المؤتمر الجامع للمصالحة الوطنية».
صفحة جديدة؟
لكن صبر المواطن الليبي نفد من شدة الإحباط وغياب الثقة في المستقبل، خصوصا أن أعمال العنف والاضطرابات الأمنية تُكلف الفرد الواحد قرابة أربعة آلاف دولار سنويا، حسب آخر تقرير لـ«معهد الاقتصاد والسلام الدولي». أما الكلفة الاقتصادية للعنف في ليبيا فقدرها المعهد بـ19 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل 1.5 مليار دولار سنويا، وهي كلفة باهظة تُثقل كاهل المواطن. ولا شيء يدل على أن الخلافات بين الفرقاء ستذوب عند الحديث عن مرجعية الانتخابات، بل العكس هو المتوقع. كما أن الخلاف على إدخال تعديلات على القانون الانتخابي سيشكل كابحا من كوابح التوافق المطلوب. أما ملف العدالة الانتقالية فهو أكثر مدعاة للخلاف من الملفات الأخرى، لأنه يتعلق بالاغتيالات والأصناف الأخرى من الانتهاكات، ما يحتاج من الجميع الابتعاد عن ذهنية الانتقام والتشفي، والاستعداد لفتح صفحة جديدة في العلاقة بين الخصوم. وتقتضي الواقعية من المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية والجهات الضاغطة في ليبيا، التوجه بمشروع مفوضية المصالحة الوطنية إلى مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة في آن معا، لأن صدور أي مشروع عن مجلس النواب بمفرده لا جدوى منه في مثل هذه الأمور. فهل هم مستعدون لذلك؟