إذا كان المجلس الرئاسي في ليبيا غير قادر على إدارة حوار صريح وشامل بين الفرقاء الليبيين، فما الفائدة من وجوده؟ لماذا يتم اللجوء في كل مرة إلى أطراف إقليمية ودولية، وخاصة الأمم المتحدة، لإعادة القطار إلى السكة؟ وعندما ينتهي دور تلك الأطراف، يتم التمديد لها، لوجود مصالح في تأبيد الوضع الراهن. ويتجلى ذلك في الدور الأمريكي الذي يتجدد باستمرار ولا ينتهي، وهو يتجسد خاصة عبر مهمة البعثة السياسية للأمم المتحدة. وعلى الرغم من أن تلك المهمة انتهت في 30 نيسان/ابريل الماضي، تم التمديد لها في أيلول/سبتمبر لأكثر من أربعة أشهر، ثم مُدِّدت في كانون الثاني/يناير ثلاثة أشهر فقط، وأخيرا مُددت مجددا إلى أواخر الشهر الجاري.
هكذا شكلت لعبة التمديد الرياضة المفضلة لدى الأمريكيين في إدارة الملف الليبي، فهم حريصون على أن تبقى مواطنتهم ستيفاني وليامز في قلب المشهد، وهو ما يُفسر اعتراضهم (بالتعاون مع الإمارات) على تسمية أحد وزراء الخارجية الجزائريين السابقين موفدا أمميا خاصا إلى ليبيا، خلفا للسلوفاكي المُستقيل من هذا المنصب يان كوبيش. وحتى بعد انتهاء مهام سفيرهم في طرابلس ريتشارد نورلاند أخيرا، ظل السفير يشغل منصب المبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا، ما يمنحه امتيازا يجعله قادرا على متابعة تطورات الملف عن كثب.
أكثر من ذلك قررت الخارجية الأمريكية نقل مكاتب السفارة من المقر المؤقت الحالي في تونس إلى طرابلس. ومن شأن هذه النقلة أن تجعل الأمريكيين على تماس مباشر من مكونات المشهد السياسي والمجتمعي الليبي، ومبادراته وتفاعلاته.
واللافت أن هذه الخطوة أتت بعد أسابيع من إعلان الخارجية الروسية أنها قررت معاودة فتح السفارة في طرابلس، وسمت على رأسها قائما بالأعمال ريثما يُسمى سفيرً في هذا المنصب. ويشكل هذا السباق الأمريكي الروسي على تحصيل مواقع جديدة في ليبيا عنوانا دائما لسياسات القوتين في هذا البلد، الذي يملك أكبر احتياطي من النفط في القارة الأفريقية، إلى جانب احتياطي مماثل من الغاز الطبيعي يُقدر بـ53 تريليون قدم مكعب، في وقت تحتاج فيه أوروبا لذلك الغاز، من أجل التعويض عن انقطاع الغاز الروسي.
ومن العناصر التي أشعلت فتيل الاحتجاجات الأخيرة في ليبيا تواتر الإعلان عن قضايا فساد ما فتئت تنكشف أمام الرأي العام الواحدة تلو الأخرى، مُشيرة بإصبع الاتهام إلى تهريب أموال إلى الخارج وتحويل وجهة الاعتمادات التي كانت مخصصة لمشاريع اجتماعية، مثل الصحة والتشغيل وحماية البيئة، أو تلك التي رصدت مليارات الدنانير لصيانة محطات الكهرباء وبناء أخرى، إلى جانب دعم أسعار المواد التموينية والوقود.
وتبلور أثناء المظاهرات الأخيرة، التي استمرت في طرابلس أياما، تيار شبابي يدعو إلى سلمية الحركة والامتناع عن مهاجمة المؤسسات الرسمية، خصوصا بعد إضرام النار في مقر مجلس النواب بمدينة طبرق ومقر بلدية مصراتة.
في السياق أكدت تنسيقية الأحزاب والتكتلات السياسية، أهمية إفساح المجال أمام المتظاهرين للتعبير عن آرائهم بالطرق السلمية، وممارسة حقهم الدستوري والديمقراطي، وضرورة حمايتهم وتأمين وقفاتهم الاحتجاجية، وتسهيل الحصول على أذونات التظاهر اللازمة، في إشارة غير مباشرة إلى القمع الذي تعرضت له المظاهرات السلمية في ظل الحكومات السابقة.
انقطاعات الكهرباء والوقود
يشعر الليبيون أنهم يعيشون في ظروف اجتماعية صعبة، على الرغم من الثروة الكبيرة التي يملكها بلدهم، وهم يُحملون السياسيين، وخاصة الحكومات المتعاقبة منذ 2011 مسؤولية تدهور الأوضاع المعيشية. كما أن الخبراء يؤكدون أن الأزمة الاجتماعية لا تقتصر على انقطاعات الكهرباء والوقود، وإنما تشمل أيضا شح السيولة في المصارف التجارية والارتفاع السريع للأسعار، بالإضافة للانفلات الأمني، ما يجعل المواطن يعيش في قلق وإحباط دائمين. وذكر مواطنون كُثر أنهم يتعرضون للإذلال بكل الطرق ويُحاربون في أساسيات معيشتهم ومعيشة أسرهم. والغريب أن 31 حزبا سياسيا برزت في الفترة الأخيرة، بعد اجتماع ممثليها مع رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، في إطار البحث عن حل للأزمة، اتضح أنها لا تملك رؤية للحاضر والمستقبل، وليس لديها أي برنامج زمني لإخراج البلد من دوامة الحروب والصراعات العنيفة. وإذا كانت استراتيجيا تلك الأحزاب تتمثل بمنح تفويض لـ»الرئاسي» كي يتسلم زمام الأمور ويُنظم انتخابات في نهاية العام الجاري، فما الفائدة من وجود تلك الأحزاب؟ وما الدور الإيجابي الذي يمكن أن تلعبه في دفع البلد نحو الحل السياسي طالما أنها تخلت عن وظيفتها وفوضت الأمر لـ»الرئاسي»؟ واللافت أيضا أن تلك القوى السياسية تُلاحظ اندلاع حركات احتجاجية في غالبية المدن الليبية، إلا أنها لا تفعل شيئا لتأطيرها وتوجيهها نحو طريق البناء والنأي بها عن الفوضى وأعمال العنف.
أي دور للأحزاب؟
هذا لا يعني إلغاء الأحزاب، التي هي دعامة من دعامات النظام الديمقراطي، وإنما العود إلى وظيفتها الأصلية باتخاذ المبادرات والخطوات التي تُسهل إيجاد المرجعية الدستورية والقانونية لإجراء انتخابات حرة وشفافة ونزيهة، لا يمكن الطعن في نتائجها. صحيح أن النزعة الاستئصالية للنظام السابق، وتعامله بوحشية مع المعارضين، حتى إن لم يشكلوا خطرا عليه، ساهمتا في تصحير المشهد السياسي، على مدى أربعين عاما. لكن من المفروض أن أكثر من عشر سنوات مرت على انتفاضة 2011 كانت كافية لبناء حياة حزبية خصيبة، أسوة بما حدث في أوروبا الوسطى والشرقية، في أعقاب انهيار جدار برلين. ومن المفارقات الليبية أن الحزب الذي يبدو الأقوى في المرحلة الراهنة هو حزب «الكتاب الأخضر» الذي وضعه معمر القذافي، والذي تراهن بعض الدول المتداخلة في الملف الليبي مثل روسيا، على فوزه في انتخابات رئاسية مقبلة. ويمكن القول إن هذا التيار استفاد من الاحتجاجات الشعبية الأخيرة ليمتطي صهوتها من أجل إضعاف خصومه، وخاصة رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، من أجل جمع المؤيدين من المواطنين الناقمين على كل ما يرمز للسلطات، على طريقة الزعيمة اليمينية عبير موسي في تونس.
في هذا الإطار اعتبر بيان صادر عن تنسيقية الأحزاب، ووقع عليه 16 حزبًا وتكتلًا سياسيًا، أن الحراك الشعبي والشبابي، المعبر عن حالة الاحتقان التي يعيشها المواطن الليبي، والناجمة عن سوء الخدمات والأزمات المعيشية الخانقة، تشكل انعكاسا حقيقيا لحالة الانسداد السياسي وتآكل شرعية الاجسام الحاكمة، التي فقدت ثقة الشعب بها.
من طبرق إلى طرابلس
ولوحظ أن مظاهرات الاحتجاج لم تقتصر على العاصمة وبعض المدن الكبرى، وإنما شملت غالبية المدن، الكبيرة منها والصغيرة، من طبرق شرقا إلى طرابلس غربا ومن مصراتة شمالا إلى سبها جنوبا. الغريب أن الجميع توخوا مع الحركة الاحتجاجية، سياسة الاحتواء بدءا من خليفة حفتر إلى الدبيبة، وصولا إلى ستيفاني وليامز، مُقرين بشرعية مطالبها، مع أنها تطالب برحيل جميع الأجسام السياسية العقيمة، التي لم تستطع معاودة بناء مؤسسات الدولة وتحسين مستوى العيش ووضع حد للعنف والجريمة وحل الميليشيات.
واتهم صالح أنصار النظام السابق باقتحام مقر مجلس النواب في طبرق، متوعدا بمحاسبتهم وفق القانون. وردا على ذلك الموقف، سارعت ما تسمى بـ»جبهة النضال الوطني» بقيادة أحمد قذاف الدم ابن عم معمر القذافي، إلى التنصل من حريق مقر المجلس، معربة عن «اندهاشها للاستنتاج السريع من عقيلة صالح قبل انتهاء التحقيقات». أما السفير عبد المنصف البوري، الذي كان أحد المعارضين البارزين لنظام القذافي، فاعتبر أن» أمام الليبيين مشكلتين مستعصيتين تعتبران بمثابة امتحان للحراك الشعبي، إذ لا يكفي مجرد خروج الجماهير في تظاهرات ومسيرات رافضة للوضع المرير القائم في البلد، بل إن ما يُكسب هذا الحراك حيوية لبقائه والحفاظ على وحدته واستمراريته هو بروز قيادات من مختلف المدن والمناطق الليبية من جهة، والابتعاد عن كل مظاهر التفرقة والتنافر، في مواجهة أي قمع متوقع من جهة ثانية». وحذر البوري من أن التهاون في إفراز قيادات شابة قد يعرّض الحراك لكل أنواع الاهتزازات والتجاذبات، بالرغم من ثباته على مطالب جامعة.
مفاجأة الزيداني
في السياق أحدث وزير التخطيط في حكومة الدبيبة محمد يوسف الزيداني، مفاجأة صادمة، حين قدم في اجتماع مجلس الوزراء، معلومات عن الاعتمادات التي أنفقت على قطاع الكهرباء، والتي بلغت في مجملها قرابة 12 مليار دينار، ومع ذلك ما زال الليبيون يعيشون من دون كهرباء لأكثر من 16 ساعة يوميا. غير أن الوزير لم يتمكن من إكمال حديثه، بعدما قاطعه الدبيبة قائلا «هذه الأرقام تدينك وتديننا حين يسمعها الناس الذين لا تصل إليهم الكهرباء».
وهذه إشارة واضحة إلى حجم الفساد المستشري في الدولة والجسم المجتمعي على السواء. من ذلك أن مكتب النائب العام الليبي الصديق الصور، أصدر أخيرا خمس نشرات حمراء إلى منظمة الشرطة الدولية «الإنتربول» في حق خمسة مسؤولين سابقين في المؤسسة الليبية للاستثمار، على خلفية الاشتباه بضلوعهم في ملفات فساد. وتعلق سبب الاصدار بـ»التحايل للحصول على منافع مادية غير مشروعة في إدارة الاستثمار وهوامش الربح ومقابل أتعاب الإدارة». ومن بين من تستهدفهم الملاحقة القضائية النائب الأسبق للمدير التنفيذي للمؤسسة الليبية للاستثمار مصطفى محمد زرتي، ونجل وزير النفط رئيس الوزراء في عهد القذافي محمد شكري غانم. وأفادت مصادر قضائية أن الشركة الخاصة «بلادين» كانت تقوم باستثمار الأموال الليبية، نيابة عن المؤسسة الليبية للاستثمار. وأثبتت تحقيقات القضية أن الأموال الليبية كانت تتجه مباشرة عبر المؤسسة الليبية للاستثمار إلى شركات تابعة للمتهمين الخمسة، من دون الإفصاح عن قيمتها.
قصارى القول إن ليبيا ستظل تُعاني من بعض نخبها الجشعة التي تستحوذ على المال العام لكي تضعه في حساباتها في الخارج. إلا أن الشارع لم يبق صامتا ومُدجنا بل رفع الصوت عاليا ضد الفساد والفاسدين، والأرجح أنه سيكون لاعبا مهما في المستقبل، بالرغم من افتقاره إلى قيادة سياسية واضحة ونظيفة اليدين.