كان متوقعا أن تقتصر الاتفاقات بين الزعماء الثلاثة على مسائل التعاون الاقتصادي، لكن الاتحاد الأوروبي فرض أجندته على الاجتماع، عبر زيارة رئيسة الحكومة الإيطالية إلى تونس، عشية اللقاء الثلاثي.
في خطوة غير مسبوقة، منذ انطلاق اللقاءات بين الرئيسين الجزائري عبد المجيد تبون والتونسي قيس سعيد، عُقدت قمة في تونس، مطلع الأسبوع الماضي، خُصصت للأوضاع الإقليمية، وخاصة الأزمة الليبية، بمشاركة رئيس المجلس الرئاسي في ليبيا محمد المنفي. وكان متوقعا أن تقتصر الاتفاقات بين الزعماء الثلاثة على المسائل المتصلة بالتعاون الاقتصادي، في ضوء الصعوبات التي تواجهها البلدان الثلاثة، بدرجات متفاوتة، إلا أن الاتحاد الأوروبي فرض أجندته على الاجتماع، من خلال زيارة رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني إلى تونس عشية اللقاء الثلاثي، وهي رابع زيارة منذ صعودها إلى سدة رئاسة الوزراء في روما. وأهم ما يسعى إليه الإيطاليون، هو الحصول من تونس وليبيا على التزام باعتراض المهاجرين غير الشرعيين المنطلقين من بلدان الساحل عند الحدود التونسية والليبية، وإعادتهم إلى بلدانهم الأصلية. وهذا يعني أن حدود أوروبا لن تبقى عند السواحل الإيطالية، وإنما ستتحرك في اتجاه الجنوب، لقفل الطريق ورفع الحواجز أمام محاولات المهاجرين غير النظاميين العبور نحو إيطاليا.
ومع ظهور عناصر إرهابية في الفترة الأخيرة، ارتدى هذا الهاجس الأمني بعدا جديدا، جعله من القضايا التي تحظى بالأولوية في أي تقارب بين البلدان المعنية. وأتى القبض على أمير جماعة «جُند الخلافة» في جبال القصرين (وسط) التونسية، ليؤكد أن الخطر ما زال قائما. وترتبط هذه الجماعة، التي نشأت أول الأمر كجماعة إرهابية مستقلة في تونس، في أوائل العام 2014 بـ«تنظيم الدولة الإسلامية». وفي الجانب الليبي تصاعدت أعمال الجماعات المسلحة المتناحرة، ووصل صليل اشتباكاتها إلى وسط العاصمة طرابلس، بل وحتى إلى محيط بيت رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة. كما أن معارك اندلعت بين فصائل متنافسة في مدينة الزاوية، غير بعيد عن طرابلس، بالإضافة إلى توتر العلاقات بين الحكومة ومدينة زوارة، التي تتحكم بالمعبر الحدودي «راس جدير» بين تونس وليبيا. وحاولت حكومة الدبيبة انتزاع إدارته من الجماعات الخارجة عن الدولة. لكن الوضع على هذا الصعيد ما زال غامضا، لأن حجم القوة بين الأجسام شبه العسكرية، التي تحترف السهر على أمن الحكومة، متقاربٌ، وبالتالي من الصعب السيطرة عليها أو نزع أسلحتها.
أما الجزائريون، الذين سيطروا على الجماعات المسلحة تقريبا في بلدهم، فهم قلقون من الاتفاق الذي أبرمته حكومة الدبيبة مع الجيش الأمريكي لتنظيم دورات تدريبية لضباط الجيش الليبي وجنوده في غرب ليبيا «للرفع من مستوى قدراتهم العسكرية والقتالية». والأرجح أن الجزائريين استفسروا من الأمريكيين عن هوية القوات التي ستعمل في مناطق قريبة من حدودهم المشتركة الطويلة، مع كل من مالي والنيجر. وحسب خبراء وسعت الجماعات الإرهابية من دائرة حركتها، وسط الفراغ الذي تركه الانسحاب المتعجل للقوات الفرنسية من النيجر ومالي وبوركينا فاسو. وعلى الصعيد الاقتصادي أتى الليبيون إلى قمة تونس وقد ارتقوا إلى الرتبة الأولى بين البلدان الأفريقية المصدرة للنفط، بـ1.24 مليون برميل في اليوم مُتقدمين على نيجيريا، ومُحققين رقما يُعادل مستوى الإنتاج قبل انتفاضة 17 فبراير 2011. وربما يُتيح هذا الوضع الإنتاجي المريح، التفكير في مساعدة تونس، التي تمرُ بمصاعب اقتصادية ومالية جمة، فيما ترفض حكومتها الاقتراض من صندوق النقد الدولي، مُعتبرة إياه شكلا من أشكال التسوُل. والملاحظ أن القمة الثلاثية تزامنت مع اكتمال بناء الطريق السيارة، التي تصل حدود الجزائر الشرقية بتونس، ما يُعطي زخما كبيرا للمبادلات التجارية بين البلدين في المستقبل.
طاقات بديلة
وعلى الصعيد الاقتصادي، أكد الرؤساء الثلاثة على ضرورة التعجيل بتنفيذ مشروع الربط الكهربائي بين تونس وليبيا والجزائر، وتسريع إجراءات تنقل الأفراد وإقامة مناطق تجارية حرة بين الدول الثلاث، وفقا لما جاء في البيان الختامي. غير أن إعلانات النوايا هذه تُشبه كثيرا من الإجراءات المماثلة التي نصت عليها عشرات الاجتماعات الوزارية المغاربية، ولم يتحقق منها شيء يستحق الذكر، ربما عدا مشروع الربط الكهربائي بين البلدان الثلاثة. ولم يُذكر شيء عن تطوير الطاقات البديلة، مع أن إقامة مزارع للطاقة الشمسية في الصحراء المشتركة، سيمكن من تصديرها إلى أوروبا، فضلا عن إشباع السوق المحلية من مصادر الطاقة الجديدة. كما اتفق الرؤساء على تكوين فريق عمل مشترك لصياغة آليات تمكن من إقامة مشاريع واستثمارات كبرى في قطاعات اقتصادية ذات أولوية، وفق البيان الصادر عن القمة، والذي لم يُعط تفاصيل. والأرجح أن تشكيل اللجان وتكوين فرق العمل المتخصصة، لن يُجديا نفعا في المستقبل، طالما لم تُطلق أيادي القطاع الخاص في البلدان المغاربية الخمس، لإقامة مشاريع إقليمية مندمجة وشراكات مع الصين وأوروبا واليابان، من الحجم الذي لا يستطيع الأفراد النهوض به. ومن أهم أدوات الاندماج الإقليمي، إقامة مناطق للتجارة الحرة، تساهم في تنشيط الاقتصاد المحلي وعقد شراكات قد تُغير وجه المنطقة. في المقابل يشكل غلق الحدود بين الجزائر والمغرب، منذ العام 1994 مصدر إضعاف للاقتصادين معا، علما أن السنوات التي ظلت فيها الحدود مفتوحة، منذ استقلال المغرب (1956) والجزائر (1962) هي أقل عددا من التي كانت فيها مقفلة.
وعلى الصعيد الدولي أكد بيان الرؤساء أن «هناك حاجة ملحة لأن يكون للدول الثلاث صوت مسموع وموحد وحضور مؤثر وفاعل في مختلف فضاءات الانتماء الإقليمية والدولية» وهي إشارة غير مباشرة إلى الرؤية الجزائرية التي تسعى إلى المساهمة في بلورة عالم متعدد الأقطاب. وقد جسدت الجزائر هذه الرؤية من خلال طلبها الانضمام إلى مجموعة العشرين. والمؤكد أن النجاح الرمزي في التقريب بين البلدان الثلاثة، سيُعزز موقف الجزائر التي ما زالت مُصرة على الانضمام لمجموعة العشرين.
سياسيا تتجه الأنظار في البلدان الثلاثة إلى الانتخابات المقررة أواخر العام الجاري، مع انتهاء عهدتي الرئيسين تبون وسعيد. لكن الأمر ما زال غير محسوم، خاصة في ليبيا، حيث عبر الرؤساء عن «ضرورة دعم الجهود الرامية لتنظيم الانتخابات، بما يحفظ وحدة ليبيا وسلامتها الترابية واستقرارها». لكن ليست لدى الجزائر وتونس أوراق تستطيعان استخدامها للمساهمة في حلحلة الأزمة، أقلُهُ بسبب القطيعة القائمة بين البلدين والحاكم العسكري للمنطقة الشرقية خليفة حفتر. لكن دقة الموقف المغاربي، الذي لا يريد الوقوع في مصيدة الصراعات الإقليمية، تجعل كل دولة من الدول المغاربية الخمس تتريث في القيام بوساطات أو محاولات لجمع الفرقاء الليبيين، حيث فشل المبعوثون الأمميون السابقون السبعة.
وساطة مغربية
وكانت الوساطة المغربية في 2015 ثم في 2023 أثمرت توقيع الفرقاء الليبيين على «اتفاق الصخيرات» ثم «اتفاق بوزنيقة». غير أن الخلافات العميقة حالت دون السير نحو إجراء الانتخابات المتفق عليها من حيث المبدأ. والأرجح بعد تشكيل المحور الثلاثي الجزائري التونسي الليبي، أن اهتمام المغاربة بالملف الليبي سيتراجع، بالنظر لارتخاء العلاقات بين الرباط وطرابلس. وفي هذا الإطار يمكن القول إن المبادرة الثلاثية أقصت المغرب من اللعب في المضمار الليبي، كما أقصت أيضا موريتانيا. والثابت أن الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني تلقى دعوة لحضور الجلسة التأسيسية في تونس، لكنه أحجم عن المشاركة في القمة التي ضمت الرؤساء الثلاثة فقط، لأسباب غير معروفة. واستطرادا فإن هذا التحفظ الموريتاني، معطوفا على الغياب (أو التغييب) المغربي، يعكسان المناخات السلبية، التي جرت فيها أعمال القمة، التي لم تتجاوز مدتها الساعتين. وبدا لكثير من المحللين أن غياب المغرب، وهو عضو مؤسس للاتحاد المغاربي، الذي أبصر النور في مدينة مراكش العام 1989 يُضعف الكيان البديل، ويُعيد المنطقة إلى صراع المحاور في أواخر ثمانينات القرن الماضي. وكان الرئيس التونسي الراحل حبيب بورقيبة وقع مع نظيره الجزائري الشاذلي بن جديد، على معاهدة الأخوة وحسن الجوار في العام 1983 وانضم إلى المعاهدة الرئيس الموريتاني معاوية ولد طايع. ورد العاهل المغربي الحسن الثاني والزعيم الليبي معمر القذافي على تلك المعاهدة، في العام التالي، بالتوقيع على «معاهدة وجدة» التي تأسس بموجبها «الاتحاد العربي الأفريقي» لكنه لم يُعمر طويلا. فهل سيكون مصير المبادرة الثلاثية الحالية، مُماثلا لمصائر المشاريع السابقة، طالما أن الأشخاص تغيروا وأن أسباب الفشل ما زالت هي نفسها؟
أملٌ باهت
مع تقدم الأيام والأعوام، يزيد أمل إنعاش الاتحاد المغاربي ابتعادا عن التحقيق، وتخبو لدى جيل أو جيلين فرص السير نحو تعاون اقتصادي تكاملي، فتأخير بناء مجموعة اقتصادية إقليمية، في شمال أفريقيا يُؤثر تأثيرا سلبيا في الأوضاع الأمنية والعسكرية للمنطقة، على حساب المشاريع التنموية. ويظهر ذلك بشكل جلي في تضخُم الموازنات العسكرية للبلدان أعضاء الاتحاد، إذ أن غياب الثقة والاحتراس من الجار عززا التعويل على التسلح، بل وأشاعا مناخا من السباق على اقتناء أحدث الأسلحة، بوصفها الأداة الرئيسية للدفاع عن السيادة. وتخصص الدول المغاربية في المتوسط، حوالي 3.30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للتسلح، وهي تُنفق نسبيا أكثر من أي بلد أوروبي، إذ لا تتجاوز هذه النسبة في البلدان الأوروبية 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وتفيد إحصاءات رسمية أن موازنات الدول المغاربية مجتمعة لا تتجاوز بكثير نصف موازنة إسبانيا بمفردها. كما تفيد إحصاءات البنك الدولي بأن الفجوة بين موازنة التسلح في الجزائر ونظيرتها في المغرب، أهم بكثير من موازنات الدول الثلاث الأخرى الأعضاء في الاتحاد المغاربي. وتجاوزت واردات الأسلحة إلى الجزائر الواردات المغربية بأكثر من 15 مرة حسب بيانات «معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام». ومردُ ذلك إلى الاعتقاد السائد بأن مصدر التهديد الأساسي المُحتمل يأتي من الجار الأكثر قوة، كما يقول المستعرب الإسباني ألفار فاسكونسلوس.