لإلقاء الضوء على الأحوال في ليبيا، وصفت صحيفة الديلي تلغراف اللندنية (11 اكتوبر الجاري) الوضع القائم هناك بقولها ‘الدولة لم تعد قادرة على فرض سيطرتها لا على الجماعات المسلحة ولا على المجتمع المدني، الذي تهيمن عليه الجماعات الإسلامية، بسبب ضعف تركيبة الحكومة المسؤولة عن الفترة الانتقالية وتدني قدراتها السياسية والأمنية’. ومن جانبي اضيف أن اختطاف رئيس الوزراء الدكتور علي زيدان منذ بضعة أيام، عكس قمة المأساة الحاكمة، بعد أن شهد شهر ايلول/سبتمبر الماضي مجموعة من الانتهاكات التي تؤكد أن الأوضاع الأمنية في هذا البلد قد تقود إلى حروب اهلية، بعضها على الهوية، وبعضها الآخر على المذهب والثالث لأسباب قبلية. حزب العدالة والبناء الإسلامي المعارض، الذي يُعد الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، انتقد زيارة رئيس الوزراء للقاهرة أواخر شهر اب/ أغسطس الماضي، باعتبارها ‘مناورة سياسية لخلط الاوراق وشغل الرأي العام الليبي عن قضاياه الداخلية، وهدد بسحب الثقة، ولولا أن رئيسه محمد حسن صوان لم يتمكن من حشد 120 عضوا من أعضاء المؤتمر الوطني العام ـ البرلمان الذي يتكون من 200 عضو ـ لتحقيق هذا الهدف غير الملائم في هذه الفترة العصيبة تحت شعار ‘فشل الحكومة في حلحلة الملفات الأمنية’.. لشهدت البلاد مزيدا من التوتر والانفلات الامني. بالتوازي مع توقيت هذا التحرك السلبي من جانب جماعة الإخوان.. أعلنت لجنة الطاقة بالمؤتمر العام، أن توقف تصدير النفط الخام بسبب سيطرة بعض الميليشيات المسلحة على عدد من الموانئ الليبية، تسبب في خسارة لموازنة الدولة بلغت نحو 3 مليارات دولار.. مما أدى إلى تدهور سمعة الحكومة في الخارج، لأنها ‘لا تحترم تعاقداتها’. وفي الداخل لأنها قريبا ستكون غير قادرة على توفير المواد الحياتية، او الدواء او المرتبات لأبنائها. تواكب هذا الإعلان مع قيام مجموعة من العناصر المسلحة بإغلاق مدرج مطار طرابلس الدولي لعدة ساعات، مما حرم عددا من الطائرات من الاقلاع وعددا آخر من الهبوط، وعطل بذلك عشرات المسافرين من داخل ليبيا والقادمين إليها. الغريب في الأمر أن الميليشيات المسلحة تسيطر على ثلاثة من أهم الموانئ الليبية هي: الفيل والبريقة والشرارة، وترفض أي مساع لفك قبضتها عنها. فيما تبذل الحكومة أقصى طاقاتها التفاوضية لاعادة فتح أربعة أخرى خارجة عن سيطرتها، ولم تفلح بعد. وأيضاً.. أعلنت فضائية النبأ أن مجموعة مسلحة قامت باختطاف العنود ابنة عبد الله السنوسي رئيس الاستخبارات الليبية السابق، وهي برفقة الشرطة القضائية عند مغادرتها سجن الرويمي، بعد قضاء فترة العقوبة التي حكم بها عليها بتهمة محاولة دخول البلاد بجواز سفر مزور، ولم يفرج عنها إلا بعد مرور حوالي أسبوع، على أثر تدخل إحدى الميليشيات التابعة للجنة الأمن العليا بوزارة الداخلية. في التاسع من شهر ايلول/سبتمبر اعترضت الكثير من الجماعات الإسلامية على البيان الذي صدر في موسكو في أعقاب المحادثات التي أجراها محمد عبد العزيز وزير الخارجية الليبي في موسكو، مع لافروف نظيره الروسي، لأنه أوضح أن الآفاق الجيدة للتعاون بين الحكومتين تقوم على ‘توسيع مجال التعاون العسكري بينهما، بما في ذلك تصدير الأسلحة والمعدات الروسية، والمساعدة على تدريب الكوادر المتخصصة في حماية الحدود الليبية’.. وأعلنت انها ترفضه جملة وتفصيلاً، لأنه لا يتوافق مع نهج الدولة بعد الثورة. في نفس الوقت رحبت بموافقة الحكومة على تجديد الاتفاق مع الجانب الأمريكي بـ’تكليف قوات الأفريكوم ـ الأمريكية العاملة في أفريقيا – بمراقبة الحدود’ حتى شهر حزيران/يونيو 2014 لمواصلة تأمين الحدود ورعاية الأمن الداخلي ‘لضمان استمرار الأمن ووقف تهريب الأسلحة للداخل والخارج’. بعد ذلك بيومين وقع انفجار ضخم الحق أضرارا مادية جسيمة بمقر وزارة الخارجية في مدينة بنغازي وبعض المباني القريبة منه، تسببت فيه سيارة مفخخة.. قال البعض انه جاء متزامناً مع الذكرى الأولى للهجوم على القنصلية الأمريكية، الذي أودى بحياة أربعة أمريكيين، كان من بينهم سفير واشنطن في طرابلس. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعرضت السفارة الروسية في الثالث من شهر تشرين الاول/أكتوبر – بطرابلس لهجوم على يد بضع عشرات قاموا بإطلاق النار على بنايتها ومزقوا العلم المرفوع عليها، وحاولوا اقتحامها انتقاماً مما اشيع حول قيام سيدة روسية باغتيال ضابط ليبي، من دون أن يُعلن عن سبب الاغتيال او خلفيات العلاقة بين الطرفين، مما اضطر الخارجية الروسية إلى إجلاء موظفيها إلى تونس بصفة مؤقتة. لهذه الأسباب عبر رئيس الوزراء الليبي إبان زيارته للندن، للمشاركة في مؤتمر الاستثمار الأجنبي المباشر في ليبيا، عن استيائه البالغ من الدور التخريبي الذي تقوم به الميليشيات المسلحة ‘التي باتت تمثل عقبة كبير في طريق مساعي حكومته للخروج من المأزق الاقتصادي والأمني الذي تعيش فيه البلاد’. تبدو الصورة قاتمة إلى حد كبير.. فبعد شهور طويلة من القضاء على النظام السابق، لم يبدأ البناء لنظام جديد يحل محله.. ولم يتفق على أسس قاطعة لوقف الفوضى وجلب الاستقرار والأمن.. ولم يتوقف تهريب السلاح إلى داخل البلاد وإلى دول الجوار، خاصة مصر.. ولا زالت الجماعات المتشددة تهدد المجتمع والسكان الآمنين .. ولا زالت المصالح الاقتصادية والنفطية بعيدة عن مستواها اللازم لإدارة عجلة التنمية. وهناك شبه اتفاق على أن هناك أمرين على جانب كبير من الأهمية، يقفان وراء هذه الصورة ويعززان من قتامتها.. الأول.. ان جماعات تيار الإسلام السياسي، وفي مقدمتها جماعة الإخوان، تتعامل مع واقع الحال باعتبارها هي الأقوى تأثيراً، على الرغم من أنها جاءت في المرتبة الثانية بعد تحالف القوى الوطنية، وفق نتائج الانتخابات التي جرت في منتصف العام الماضي.. ولهذا يرفضون الاعتراف بحقيقة حجم تأثيرهم في الميدان، ومن نفس المنطلق يتعاملون مع كافة القضايا والملفات بدرجة عالية من التشدد، ويحاولون دائما أن يفرضوا رؤيتهم على الآخرين، فيما يتعلق بشكل النظام وسياساته الداخلية والخارجية. الثاني.. النزعات القبلية والعشائرية التي أعادت أجواء العلاقات بين مكونات الشعب الليبي إلى الوراء سنوات كثيرة، حيث ظهرت العداوات على السطح، وأصبح الحل الأمثل للخلافات البينية هو الاحتكام للسلاح، والخوف كل الخوف من ان يقود ذلك إلى تفتيت البلاد، بين مجموعات من القبائل تظن ان بينها توافق أو تآلف.. بينما هذا التوجه من شأنه أن يدمر الوطن الذي هو ملك للجميع، لأنهم يتشاركون في الجغرافيا والتاريخ والمستقبل. المأساة تكمن في استمرار الفوضي التي نجمت عن نظرية سلطة الشعب التى ابتدعها النظام السابق.. أشلاء الدولة لا زالت مبعثرة، ويعتقد البعض أن تقاسم السلطة الجديدة ومغانمها لا بد أن يراعي حجم وجود الجماعات الإسلامية والميليشيات والقبائل، خاصة أن قانون العزل السياسي ساهم إلى حد كبير في حرمان الكثيرين من المساهمة في نهضة الدولة على أسس من المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات. المأساة تكمن في أن نموذج دمج التنظيمات المسلحة، التي قاتلت النظام السابق حتى أسقطته، ضمن مسمى درع ليبيا التابع للجيش الوطني، وضمن الغرفة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية، لم يحقق بعد الأمن والأمان للمواطن.. لماذا؟ لأن جميع هذه الميليشيات المندمجة تأتمر بأوامر قياداتها الميدانية، التي لا تلتزم بخطط التأمين والمصالحة التي تضعها الجهات الأمنية المختصه على مستوى الجيش الوطني ووزارة الداخلية. المأساة تكمن في انتشار المتطرفين من أنصار القاعدة والخلايا التابعة للجماعات الجهادية الوافدة للبلاد من الخارج، سواء من الجوار المالي والتشادي أو عبر الحدود الشرقية. وتكمن أيضاً في فشل محاولات تشكيل الهيئة الوطنية التي ستكلف بإعادة كتابة دستور البلاد، الذي سيؤرخ للانتخابات البرلمانية التي يتطلع الكثيرون لأن تفتح الباب لقيام نظام حكم جديد، بعد أن عجز المؤتمر الوطني الحالي والحكومة عن وقف التدهور المتتالي لأوضاع البلاد الأمنية والسياسية والاقتصادية. لا ينكر أحد أن غياب القرار السيادي الليبي في ما يتعلق بواقعة اعتقال الكوماندوز الأمريكيين للمدعو ابو أنس الليبي، التي بسببها أعتقل رئيس الوزراء لعدة ساعات (لم يكشف عن تفاصيلها بعد) يُمثل نموذجاً صارخاً للواقع الليبي الممزق بين حكومة هشة وجماعات سياسية إسلامية مناوئة ومعارضة وميليشيات مسلحة تشيع عدم الاستقرار .. فإلى متى يستمر هذا الوضع؟ الإجابة لدى قطاعات الشعب الليبي التي تتطلع لغد افضل مما كانت تعيشة قبل سقوط النظام السابق ومما تعاني منه منذ عامين ونصف العام.