التصنيف السابق إلى شرق يُمثله حفتر وغرب يمثله الدبيبة، لم يعد صالحا كأداة لفهم المشهد الليبي خصوصا بعدما ظهرت تجاذبات تدلُ على تصدُع في جدار كل فريق من الفريقين.
هناك توزيع أدوار بين الزعماء الليبيين بغاية المحافظة على مواقعهم الحالية، مع رفع أصواتهم، في الوقت نفسه، بالدعوة إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية، للايهام بأنهم ليسوا من يعرقل المسار الانتخابي. ومنذ تأجيل الانتخابات، التي كانت مقررة للرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر 2021 نلحظ تدويرا للمناصب بين الزعامات التي أصبحت قديمة، لكننا لا نلحظُ محاولات لإدماج نُخب شابة في أجهزة الدولة، بالرغم من بروز بعض القيادات الشابة ذات الثقافة والكفاءة المُتقدمتين على الجيل الحالي.
ويلعب انشطار الدولة إلى رأسين وجسمين (حكومة الدبيبة/ حكومة أسامة حماد) دورا حاسما في استمرار الانسداد وتفاقم الأزمة السياسية، وهو ما يجعل أي حديث عن السير نحو الانتخابات مجرد لغو. ومن أبسط الدلائل على هذا أن حكومة الوحدة وحكومة باشاغا (قبل عزله) ظلتا تعملان على المحافظة على الوضع القائم، أو ما يُسمى بـ«ستاتوس كو» وتمتنعان عن القيام بأية مبادرة لتحريك المسار الانتخابي.
لا بل إن الدبيبة ما زال يُردد أنه لن يُسلم الحكم إلا لحكومة منتخبة، وهذا يعني أنه سيسلمُ مفاتيح الحكم (إذا سلمها وهو أمر غير مؤكد) بعد الانتخابات. واستطرادا فهو يقصد أن حكومته هي الجهة التي ستكون مشرفة على العملية الانتخابية، إلى جانب المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، التي يقتصر دورها على الجوانب الفنية. صحيح أن شيئا من الاستقرار عاد في السنوات الأخيرة، لا سيما بعد فشل «غزوة طرابلس» التي قامت بها قوات القائد العسكري للمنطقة الشرقية خليفة حفتر، في نيسان/أبريل 2019 مدعوما بمرتزقة مجموعة «فاغنر» الروسية الخاصة.
ويميل محللون مطلعون على الشأن الليبي إلى اعتبار اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في 23 تشرين الأول/اكتوبر 2020 بدفع نوعي من ألمانيا، هو الذي أتاح تحقيق السلم والاستقرار على مدى السنوات الماضية. إلا أن الليبيين ما زالوا بعيدين عن تحقيق بعض البنود الهامة من الاتفاق الذي دعموه، إذ قضت بنوده بإخراج المرتزقة من ليبيا في غضون تسعين يوما من التوقيع على الاتفاق، ولم يتحقق شيء من ذلك. لا بل زاد تدفق المرتزقة من روس وسودانيين وتشاديين وسوريين.
مبعوث فرنسي
وبلغ القلق من تنامي أعداد المرتزقة في أفريقيا أن أوفد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المبعوث الخاص إلى منطقة الساحل والصحراء كريستوف بيغو، إلى موسكو لبحث ملف «فاغنر» مع الروس، مع أن الكرملين ينفي دوما علاقته بقوات طباخ بوتين السابق يفغيني بريكوجين.
في هذا السياق أفاد المفتش العام لوزارة الدفاع الأمريكية أن الإمارات تدعم جماعات من المرتزقة السودانيين مباشرة، كما استضافت قيادات عسكرية ليبية، وهي تساعد أيضا مرتزقة «فاغنر». بهذا المعنى يصعب الحديث عن استقرار في ليبيا. فقد أظهرت عمليات القصف الجوي، بواسطة المُسيرات، لمحيط مدينة الزاوية، التي لا تبعد سوى سبعين كيلومترا عن طرابلس، بأوامر من الدبيبة، أظهرت أن الاستقرار لم يستتب، مثلما يتمنى المدنيون الليبيون، بالرغم من وجود اتفاق لوقف إطلاق النار. وكان الدبيبة برر عمليات القصف، التي أدت إلى سقوط قتيلين وجرح آخرين، بأنه استهدف شبكات التهريب عبر الحدود البرية المشتركة مع تونس، بما فيها الشاحنات الصهاريج، التي تنقل الوقود المُهرب. كما قصفت المسيرات بشكل خاص زوارق في ميناء الكتف، القريب من الحدود، بعد الاشتباه بكونها تُستخدم في نقل المواد المهربة. بتعبير آخر لم تعد ليبيا في حالة حرب، مثل الحرب الأهلية التي عاشتها في 2014 لكنها لا تنعم أيضا بالأمن والاستقرار. وقد لا يطول وضع اللاحرب واللاسلم أيضا، بالنظر لحجم الأسلحة التي يملكها أمراء الحرب، والتشجيع الذي يلقوه من داعميهم في الخارج.
ومنذ عودة النفط والغاز إلى التدفق من الحقول، التي توجد غالبيتها في الجنوب، بعد إقفال استمر عامين، تعزز الاهتمام الغربي بالأوضاع في ليبيا. غير أن استمرار القوات الروسية في الشرق والجنوب، والتركية في الغرب، يجعل احتمالات العودة إلى الصراع العنيف واردة. ويقول الباحث طارق المقريسي «إذا كانت إيرادات النفط والغاز مكنت من شراء الصمت وتفكيك بعض القنابل الموقوتة على الصعيد الاجتماعي، فإن تلك الترتيبات تبقى هشة». ويُرجح المقريسي أن الدبيبة كان يرمي من خلال الضربات الجوية التي استهدفت شبكات التهريب والجريمة، إظهار قوته العسكرية، بعدما وضع القوات التي تلقت تدريبات في تركيا تحت إمرته، مُوجها رسالة لمن يريد أن يقرأ، مفادها أنه مُصر على أن تكون له كلمته في تشكيل حكومة جديدة، مع غريمه خليفة حفتر وأولاده.
من هنا فإن التصنيف السابق إلى شرق يُمثله حفتر وغرب يمثله الدبيبة، لم يعد صالحا كأداة لفهم المشهد الليبي وتفاعلاته داخليا وخارجيا، خصوصا بعدما ظهرت تجاذبات تدلُ على تصدُع في جدار كل فريق من الفريقين.
بالمقابل من المهم التوقف هنا عند الأهمية الاستراتيجية لمدينة الزاوية الساحلية (200 ألف ساكن) إذ أنها تستقبل النفط والغاز الآتيين عبر أنابيب، من حقول الجنوب، فيتم تكرير جزء منه في مصفاة المدينة، وهي الوحيدة في غرب البلاد، واستخدام قسم آخر لتشغيل محطة لتوليد الكهرباء، وتصدير الخام المُتبقي بلا معالجة. والملاحظ أن مجلس النواب الموالي لحفتر، ندد بشدة بالقصف الجوي وهدد برفع شكوى إلى مجلس الأمن الدولي والمحكمة الجنائية الدولية. كما أن مديرية حراس السواحل الليبية انتقدت القصف، مؤكدة أنه أدى إلى إصابة عدد من قطعها البحرية لم تُحدده. أما مصادر وزارة الدفاع التي يتولاها رئيس الحكومة الدبيبة، فتُقدر نتائج الضربات الجوية بإصابة سبعة مراكب مخصصة لنقل المهاجرين إلى أوروبا، وستة مخازن للمخدرات وأسلحة وتسع شاحنات صهاريج تستخدم لتهريب النفط الليبي.
واتهم رئيس المجلس الأعلى للدولة (استشاري) خالد المشري رئيس الوزراء الدبيبة بأنه «ضالع في الأعمال الإجرامية نفسها التي عاقب المهربين من أجل ارتكابها». وطلب من المجلس الرئاسي منعه من استخدام المُسيرات «لترويع الأسر والاعتداء على معارضيه السياسيين». وكان عضو البرلمان علي بوزريبة، وهو أحد خصوم الدبيبة، أعلن أن بيته في الزاوية كان مستهدفا من القصف، وأن أحد أحفاده أصيب في الغارة. واستدعى الأمر إصدار بيانات من رؤساء البعثات الدبلوماسية الغربية، من بينهم السفير الموفد الخاص الأمريكي إلى ليبيا ريتشارد نورلاند، الذي اعتبر أن «على السلطات (الليبية) اتخاذ جميع الاحتياطات لحماية حياة المدنيين» فيما قالت السفارة البريطانية أنه «من غير المقبول استخدام أسلحة تضع حياة المدنيين في خطر» مؤكدة في الوقت نفسه أنها تتابع الوضع عن كثب.
أما خبير الشؤون الليبية جلال حرشاوي فأشار إلى وجود «مُهربين كبار لم يتعرض لهم الدبيبة وأن المخازن المُستهدفة في الزاوية لا تتبع حلفاءه السياسيين، الضالعين في أعمال إجرامية» على ما قال. والملاحظ أن غارات المسيرات أشعلت الغضب في الزاوية إذ قطع شباب المدينة الطريق الدولية التي تربطها بالحدود التونسية، كما قطعوا التيار الكهربائي، بعدما أوقفوا تشغيل مصنع الكهرباء.
تأتي هذه التطورات وسط توقف قطار الحل السياسي عند محطة 6+6 بعدما رفضت غالبية القوى الليبية مخرجات الاجتماعات التي عقدتها اللجنة، المُشكلة من ستة أعضاء من مجلس النواب ومثلهم من المجلس الأعلى للدولة. واستمرت أعمال اللجنة في ضاحية بوزنيقة المغربية أكثر من أسبوعين، قبل أن تعلن في الثالث من الشهر الجاري أنها استكملت وضع القوانين الانتخابية. غير أن غالبية الأطراف السياسية رفضتها. وبينما جرى التلويح في البداية بإنزال عقوبات بـ«القوى المعرقلة للمسار» من دون تحديدها، سارعت واشنطن إلى محاولة ضبط الأمور وامتصاص الصدمة، فباشرت اتصالات مع أطراف لم يتسن معرفة هويتها، بغية تشكيل حكومة جديدة تقود المسار الانتخابي.
خريطة طريق جديدة
والظاهر أن الأمريكيين يعتزمون وضع خريطة طريق جديدة، استبعدوا منها أعضاء مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، ما سيُثير في وجهها أمواجا من الاحتجاجات، إذا ما استمرت على هذا الموقف. أما في ليبيا فدعا المجلس الرئاسي جميع المؤسسات ذات الصلة والقوى الوطنية، إلى توسيع مشاوراتها، بمشاركة البعثة الأممية، بُغية ضمان استمرار الاستقرار وتهيئة الظروف المناسبة لإجراء الانتخابات. وحض المجلس أطرافا لم يُسمها على «الامتناع عن أساليب المماطلة الهادفة إلى إطالة أمد الأزمة السياسية، التي سبّبت الكثير من المعاناة للشعب الليبي».
ويمكن القول إن إحدى العلامات الأولى على إخفاق اللجنة في إنجاز المهمة التي كُلفت بها، هي مغادرة المشري وعقيلة صالح المغرب بعد أربع وعشرين ساعة فقط من وصولهما لحضور حفلة التوقيع، وقبل الإعلان عن نتائج عمل اللجنة. والأرجح أن استمرار الخلافات على مشاريع القوانين المُنظمة للعملية الانتخابية، سيلتهمُ الزمن الضائع، ويُهدد مستقبل البلد، حيث ما زالت المشاريع التنموية التي يُؤمل إنجازها، معطلة في كافة أنحاء البلد تقريبا، ومنها 43 في قطاع الصحة و27 في مجال المياه و21 في قطاع التربية و10 مشاريع في قطاع الطاقة، بالإضافة لمشروع الطرق الحديدية والطريق السريعة التي تربط شرق ليبيا بغربها. ولا يمكن إنجاز هذه المشاريع، طالما ظلت غالبية النخب الليبية منخرطة في معارك فرعية، ومشغولة بالمناكفات والمشاحنات العقيمة.
وسيكون من الانعطافات الكبرى انسحاب القيادات الحالية من المسرح السياسي وإفساح الطريق أمام الشباب عله ينجح حيث أخفق الكبار.