ليبيا: معركة كسر عظم بين الدبيبة وباشاغا تُؤخر الحل السياسي

رشيد خشانة
حجم الخط
0

كان هدف باشاغا من التوجه إلى العاصمة طرابلس، الاستعداد لمباشرة أعمال حكومته من هناك. ويُعتبر إخفاقه في الوصول دليلا على أنه انطلق من معطيات خاطئة وخسر المعركة.

أهدر رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب فتحي باشاغا، فرصة حشد الدعم الداخلي والدولي لتوليه رئاسة الوزراء، بعد محاولتين لاقتحام العاصمة طرابلس بالقوة. وبالرغم من تأكيده بأنه توجه لطرابلس في سيارتين مدنيتين وبلا حراسات، فإن محاولة الدخول كانت ضربة معنوية وسياسية له ولمشروعه. ولم يلبث رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة أن نزل إلى موقع الاشتباكات، بعد مغادرة باشاغا المكان، مُوجها رسالة إلى الرأي العام الداخلي والخارجي، مفادها أنه هو الأقوى على الأرض. وتعززت تلك الرسالة بنفي ما قاله الناطق باسم حكومة باشاغا من أن عمداء بلديات طرابلس الكبرى رحبوا بهذه الحكومة. بينما قال عمداء سوق الجمعة وطرابلس المركز وعين زارة وحي الأندلس إنهم يعملون تحت مظلة حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة، وإشراف وزارة الحكم المحلي.
أما الضربة المعنوية الأخرى لصورة الحكومة البديلة، فأتت من اضطرار باشاغا للعمل من مدينة سرت (شمال الوسط) وهي ليست مؤهلة ولا مجهزة للقيام بهذا الدور. لا بل إن الدساتير الليبية لم تعترف سوى بطرابلس عاصمة للبلد وللحكومة التي تُديره. وأدى تبادل إطلاق النار بين الميليشيات المسلحة الموالية للطرفين في وسط المدينة والميناء، إلى إلحاق أضرار بالمباني، واحترقت سيارات، قبل أن يُعلن باشاغا ووزراؤه، بعد ساعات من القتال، أنهم غادروا طرابلس «للحفاظ على أمن المواطنين». هذا العنف لم تشهد العاصمة الليبية مثيلا له منذ عامين، فقد تحسن الوضع الأمني بشكل ملحوظ، منذ التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في العام 2020 بين القوات المتنافسة في الشرق والغرب، والتي أحدثت حالة خطرة من الاستقطاب، منذ سقوط نظام معمر القذافي (1969-2011).
وكان هدف باشاغا من التوجه إلى العاصمة طرابلس، برفقة عدد من وزرائه، الاستعداد لمباشرة أعمال حكومته من هناك. ويُعتبر إخفاقه في الوصول إلى ذلك الهدف دليلا على أنه انطلق من معطيات خاطئة ومُضللة، وأنه خسر المعركة العسكرية سلفا. وعلى الصعيد الدبلوماسي لم يستطع الاستنجاد بدعم خارجي، إذ اكتفت القوى الدولية والإقليمية وبعثة الأمم المتحدة، بالدعوة إلى الانضباط وتغليب منطق الحوار على لغة السلاح. ولوحظ أن تلك القوى لم تشاطر موقف باشاغا الذي اعتبر نفسه ممثلا للحكومة الشرعية. وحتى تركيا التي كانت على صلات وثيقة معه، عندما كان يتولى وزارة الداخلية في حكومة فائز السراج، استقبلت وزير خارجيته حافظ قدور بشكل غير رسمي. أما فرنسا التي سبق أن استقبلت باشاغا في باريس وربطت معه علاقات وثيقة، فانفردت صحفها بوصف محاولته دخول طرابلس عنوة بـ«محاولة الانقلاب».
وفي السياق حضت البعثات الأوروبية المعتمدة لدى ليبيا جميع الأطراف على «التصرف بمسؤولية والدخول في حوار فعلي لإيجاد طريقة توافقية يمكن من خلالها المضي قدما نحو الانتخابات» مؤكدة في هذا الإطار دعمها المحادثات الدستورية الجارية في القاهرة، برعاية الأمم المتحدة. وفي معلومات مصادر مطلعة على اجتماعات القاهرة أن المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني وليامز ساعية لإيجاد توافق على قانون الانتخابات، لا سيما في شأن معايير أهلية رئيس الجمهورية المقبل، فإذا ما تحقق هذا التوافق يمكن إجراء الانتخابات بحلول نهاية العام. لكن هناك سباقا على كسب الوقت، إذ من المقرر أن تنتهي، في 22 حزيران/يونيو المقبل، خريطة الطريق لمنتدى الحوار السياسي الليبي، التي أُنشئت بموجبها المؤسسات المؤقتة القائمة في طرابلس، وهي حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي.
وتبنى مجلس الأمن الدولي، في جانبه أواخر نيسان/ابريل، بالإجماع قرارا قدمته بريطانيا لتمديد مهمة بعثة الأمم المتحدة السياسية في ليبيا لمدة ثلاثة أشهر فقط، بعدما رفضت روسيا التي تتمتع بحق النقض، منح أي فترة أطول ما لم تتم تسمية مبعوث جديد للأمم المتحدة إلى ليبيا، خلفا للسلوفاكي يان كوبتش. أما اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بليبيا، فطالبت في جانبها، جميع أطراف النزاع والأطراف والكيانات السياسية في طرابلس بـ«ضبط النفس والوقف الفوري لأي تصعيد مسلح». وشددت اللجنة على ضرورة التزام جميع الأطراف بحماية السكان المدنيين، وضمان أمنهم وسلامتهم. وتوجهت اللجنة بدعوة إلى لجنة العقوبات الدولية بمجلس الأمن الدولي لتطبيق قرارات المجلس رقم 2174 ورقم 2259 من أجل «ملاحقة كل من يخطط أو يوجه أو يرتكب أفعالاً تنتهك القانون الدولي أو حقوق الإنسان في ليبيا» وكذلك حظر السفر وتجميد أموال الأفراد والكيانات الذين يقومون بأعمال أو يدعمون أعمالا تهدد السلام أو الاستقرار أو الأمن في ليبيا، أو تعرقل أو تقوض عملية الانتقال السياسي في البلد.
في غضون ذلك يسعى الدبيبة، المُسيطر أمنيا على العاصمة، إلى الاحتفاظ برئاسة الوزراء، مؤكدا أنه لن يُسلم السلطة إلا لحكومة مُنبثقة من صندوق الاقتراع. لذا اعتُبرت المهمة الأساسية لحكومته، لدى تشكيلها، مُقتصرة على تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية، كانت مقررة للرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر الماضي. وأرجئت الانتخابات إلى أجل غير مسمى، بسبب الخلافات بين الفرقاء السياسيين، لا سيما على القانون الانتخابي، فيما كان المجتمع الدولي يعلّق آمالا كبيرة على ذلك الاستحقاق الانتخابي لتحقيق الاستقرار.

غريمان سابقان

ويعكس فشل محاولة الانقلاب التي نفذها باشاغا مدى الانقسامات بين الفصائل في إقليم طرابلس، فهذه المجموعات المسلحة التي اتحدت في 2019-2020 لصد هجوم قوات اللواء خليفة حفتر على طرابلس، تتمزق اليوم. ومن أجل فرض نفسه على رأس الحكومة، تحالف باشاغا، مع غريميه السابقين في الشرق، وهما رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، والقائد العسكري للمنطقة الشرقية خليفة حفتر وأبناؤه. أما في طرابلس، فأبرم اتفاقًا مع الميليشيات، بما في ذلك كتيبة «النواصي» وهي إحدى الجماعات الرئيسة في العاصمة. وخارجيًا، كان هذا التحالف المناهض للدبيبة، مدعومًا مباشرة أو مُداورة، من دول بينها مصر وفرنسا وروسيا.
ومع استمرار حالة الجمود في المواقف الدولية والإقليمية تجاه الملف الليبي، برزت في الفترة الأخيرة تحركات دبلوماسية لدول الجوار، شملت مصر والجزائر بالإضافة للمغرب، غايتها تغيير المواقف الدولية المتباينة تجاه ليبيا، وخاصة في ظل الانشغال الدولي بالحرب في أوكرانيا. مع ذلك كان الملف الليبي في قلب حركة دبلوماسية دؤوبة الأسبوع الماضي، شاركت فيها المغرب والجزائر ومصر وتركيا، فبعد زيارة وزير الخارجية المصري إلى المغرب، والبيان المشترك، الذي عكس تقاربا جديدا بين الرباط والقاهرة في الملف الليبي، استقبلت أنقرة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون. وكشف المؤتمر الصحافي المشترك بين الرئيسين اردوغان وتبون، عن نقاط توافق حول القضايا المشتركة بينهما. كما بدا الملف الليبي حاضرا بقوة في تلك الزيارة، مع تأكيد الجانبين على تطابق وجهات النظر في شأن حل الأزمة في ليبيا، إذ اعتبرا أن الانتخابات هي المدخل لتسوية الصراع.

الأولوية للنفط والغاز

أما العواصم الغربية المعنية بالبحث عن حل للأزمات الليبية، فنلحظ أنها تركز في الدرجة الأولى، على تأمين استمرار تدفق النفط والغاز الليبيين، ووضع حد نهائي لغلق بعض الموانئ والحقول النفطية، الذي كلف ليبيا خسائر كبيرة تُقدر بأكثر من ستين مليون دولار، بحسب وزير النفط والغاز الليبي محمد عون. وبات من الواضح أن القوى الدولية أصبحت غير قادرة على تحمل تأخير الحل السياسي في ليبيا، لأن كلفة ذلك هي التأخير في تشغيل حقول النفط.
ومع أن عائدات النفط والغاز هي المصدر الرئيس للاقتصاد الليبي الريعي، فإن جماعات مسلحة تستخدم الغلق سلاحا للضغط على الحكومات الضعيفة المتعاقبة. ويزداد الوضع مأسوية مع تداعيات الحرب الدائرة في أوكرانيا، والتي ساهمت في إغراق ليبيا في فوضى سياسية وأمنية واقتصادية، وسط انقسام بين حكومتين متوازيتين في الشرق والغرب، مثلما أسلفنا، ما أعاد البلد إلى سنوات ماضية، كان خلالها مُقسما بين حكومة في الشرق برئاسة عبد الله الثني، خاضعة لنفوذ اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وحكومة معترف بها دوليا برئاسة فائز السراج، في المنطقة الغربية، ومقرها العاصمة طرابلس.

تعويض الغاز الروسي؟

وتعد الأجسام المسلحة، التي تقف وراء عمليات وقف الإنتاج، مقرّبة من معسكر الشرق، وهي تطالب بنقل السلطة إلى باشاغا وتوزيع عائدات النفط بشكل أفضل. وفي شباط/فبراير الماضي، دعت الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا إلى إبقاء قطاع النفط الليبي في منأى عن الخلافات السياسية. لكن هذه الدعوات سرعان ما تجاهلها القادة الليبيون، الذين يراهنون على ورقة النفط، بهدف تحقيق مكاسب سياسية. وفي رد على مطالبة أوروبا بزيادة الضخ النفطي والغازي إليها من ليبيا، أكد الوزير محمد عون أن ليبيا ليس لديها كميات زائدة عن الحاجة، سواء من الغاز أم من النفط الخام لتزود بها السوق الأوروبية، تعويضا عن نقص النفط والغاز الروسيين.
وأفاد عون في تصريحات صحافية أنّه أصدر توجيهات للمؤسسة الوطنية للنفط (قطاع عام) للعمل على تطوير عدة اكتشافات نفطية وغازية لم يتم تطويرها حتى اليوم. وتقدم عون بمذكرة مفصلة لحكومة الوحدة الوطنية، بخصوص إشراك القطاع الخاص في عمليات تطوير الحقول النفطية، مشترطا أن يكون لدى الخواص، ما يلزم من الكفاءة والقدرة المالية لتطوير الحقول النفطية. وكان مستوى إنتاج ليبيا من النفط قبل الاغلاقات، التي شملت قسما فقط من الموانئ والحقول، يُعادل 1.2 مليون برميل يوميا، بينما قُدر إنتاجها من الغاز الطبيعي بـ2 ملياري قدم مكعبة يوميا.

أكبر احتياطي

وتجدر الإشارة هنا إلى أن ليبيا حازت على الرتبة الأولى أفريقيا من حيث احتياطاتها الأجنبية، على مدار أكثر من نصف قرن، بحسب تصنيف جديد للبنك الدولي. ووفق التصنيف بلغ حجم احتياطات ليبيا أكثر من 84 مليارا، ما بوأها المركز الاول، بينما حلت جنوب أفريقيا في المرتبة الثانية وبلغت احتياطاتها 57 مليار دولار، والجزائر ثالثة بقيمة قدرها أكثر من 56 مليار دولار. من هذه الزاوية يُنظر إلى الصراع الدائر بوطيس حام بين الدبيبة وباشاغا في معركة كسر عظم، تُشجعها وتُغذيها قوى خارجية، ومن أخطر نتائجها إرجاء الحل السياسي، والإبقاء على مصير البلد مُرتهنا بين أيدي الجماعات المسلحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية