هل ستجري الانتخابات العامة في ميقاتها المحدد، أم ستعمل حكومة الدبيبة، بالتعاون مع أعضاء في ملتقى الحوار السياسي، على تمديد المرحلة الانتقالية، بلا ضبط سقف زمني لها؟
مع تكثيف الضغوط الأمريكية، الظاهرة والخفية، على جميع الفرقاء الليبيين، تحركت مواقف أعضاء «ملتقى الحوار» بعد تعطيلات مديدة، لتُحقق تقدما نسبيا نحو اختيار القاعدة الدستورية للانتخابات المقررة لآخر السنة. وأفاد رئيس البعثة الأممية إلى ليبيا يان كوبيش أن أعضاء الملتقى صوتوا على ثلاثة خيارات وفاز الأول منها، ما شكل حلحلة للخلافات التي عطلت المسار ووصلت إلى حد التهجمات الشخصية بين أعضاء الملتقى. وقد وافق 25 عضوا، أي ثلث الأعضاء، على الخيار الأول، ما جعل كوبيش يُعلن اعتماد ذلك الخيار.
ومن الواضح أن هذه التطورات همشت الجنرال حفتر، وقضت تقريبا على أحلامه بالترشيح لرئاسة ليبيا، إذ أن «ملتقى الحوار» يستعد لإقصاء ذوي الجنسية المزدوجة من الترشيح للرئاسة. ويحمل حفتر وأبناؤه جنسية الولايات المتحدة بعدما أقاموا فيها أكثر من عشرين عاما.
ولوحظ في هذا السياق أن مؤتمر برلين2 لوح بفرض عقوبات على المُعرقلين للانتخابات ومنتهكي حقوق الإنسان، ومن بينهم حفتر، من دون ذكره بالاسم. في المقابل عزز المؤتمر من شرعية الهيئات التنفيذية الحالية، وخاصة المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، وعمق في الوقت نفسه الانتقادات لقوات حفتر، التي باتت تُعتبر «جماعات مسلحة غير منضبطة توشك على الخروج من التوافق الليبي والدولي». وتُعدُ خسارة حفتر التعاطف الأمريكي مُتغيرا بارزا في الصراع الليبي.
في السياق عبر الرئيس جو بايدن عن تقديره لـ»الشراكة والجهود الثنائية بين الجزائر والولايات المتحدة لدعم الاستقرار في المنطقة، وبخاصة في ليبيا ومنطقة الساحل الأفريقي».
أتى هذا الموقف في رسالة هي الأولى من الرئيس الأمريكي لنظيره الجزائري عبد المجيد تبون، منذ توليه السلطة في كانون الثاني/يناير الماضي خلفا لدونالد ترامب. وبعث بايدن بالرسالة لتهنئة تبون لمناسبة احتفال الجزائر بالذكرى الـ59 لعيد الاستقلال المصادف ليوم 5 تموز/يوليو الجاري.
وأتت تأكيدات مُتكررة لهذا الدور الأمريكي، من خلال إعلان السفارة الأمريكية لدى ليبيا أن الكونغرس والبيت الأبيض «يراقبان ملتقى الحوار السياسي الليبي، المُجتمع في جنيف». وحضت السفارة أعضاء الملتقى على إيجاد «إطار دستوري واقعي» للانتخابات المقررة 24 كانون الاول/ديسمبر المقبل.
وكان لافتا أن واشنطن لم تكتف بذلك الإعلان الواضح، بل أصدر أيضا رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ بوب مينينديز والسيناتور الجمهوري جيم ريش بيانا مشتركا عبرا من خلاله، عن دعمهما جهود أعضاء ملتقى الحوار للتوصل إلى مرجعية دستورية للانتخابات. ويدل مثل هذا البيان المشترك على وحدة المواقف بين الجمهوريين والديمقراطيين في الملف الليبي، ما لا يدع مجالا لاستثمار الخلافات بين الحزبين، مثلما كان الشأن في ظل إدارة دونالد ترامب السابقة.
أكثر من ذلك، باتت واشنطن تُواكب أولا بأول، مسار تنفيذ خريطة الطريق، المُعتمدة في مؤتمر برلين، إذ علق مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، جوي هود، على غلق قوات الجنرال المتقاعد حفتر معبرا حدوديا مع الجزائر، مُعتبرا تلك العملية قرارا أحاديا «لا يحظى بدعم المجتمع الدولي» وهو نوع من الإدانة المبطنة.
تدلُ هذه المواقف، معطوفة على الاتصالات الأمريكية المباشرة مع أطراف النزاع المحليين والإقليميين، على نهاية الوكالة التي كانت واشنطن تمنحها لإيطاليا، في السنوات التي قررت خلالها الابتعاد عن أجواء الصراع الليبي. بالمقابل كان لافتا إبرازُ واشنطن دورا محتملا للجزائر في إنهاء الصراع في ليبيا، مثلما ذكر ذلك جوي هود، الذي انتقد ميليشيات حفتر، مُعتبرا إياها جزءا من الأزمة.
ويشير الرد الأمريكي على حفتر، من دون ذكره بالاسم، إلى أن واشنطن تعتبره أحد المُعرقلين للحل السياسي. وقد تكون ماضية في تنفيذ بعض العقوبات في حقه، إذا ما أصر على تعطيل المسار، وتمسك بالدعوة إلى القتال مجددا، رافضا القبول بمخرجات جينيف، خصوصا بعدما تخلت عنه معظم القوى الدولية، وأبرزها روسيا ومصر.
جدل حول الصلاحيات
ودخل الأمريكيون في تفاصيل الجدل حول حدود الصلاحيات التي يتمتع بها ملتقى الحوار السياسي، مُعتبرين أن عليه «إيجاد إطار دستوري واقعي للانتخابات المقبلة».
بعيدا عن هذا الجدل السياسي تتركز مطالب المواطنين الليبيين في الفترة الراهنة، على ضرورة إقرار البرلمان الموازنة الجديدة، كي ينطلق إنجاز المشاريع المعطلة بعد سبعة أشهر من بداية العام. ويشكو الليبيون في المقام الأول من الانقطاعات المديدة للكهرباء في ظل حرارة الصيف، ويأملون أن يساعد التصديق على الموازنة في تحسين أوضاعهم المعيشية القاسية.
أما المفوضية الوطنية العليا للانتخابات فباشرت مساعيها لتجهيز المراكز الانتخابية، استعداداً لفتح سجل الناخبين خلال الأيام القليلة المقبلة. وفي هذا الإطار أطلقت مكاتب الإدارة الانتخابية مؤخرا، عملية تثبيت اللوحات الخاصة بأرقام مراكز الانتخاب على واجهات المدارس، التي تم اختيارها لإجراء عملية الاقتراع بها في كافة أنحاء البلد.
وقد استُكملت هذه العمليات، بحسب المفوضية، في مدن كبرى، من بينها العاصمة طرابلس ومصراتة وطبرق وترهونة ومسلاتة. وفي خطوة تعكس الاستفادة من وسائل الاتصال الجديدة، أفادت المفوضية أنها تعتزم نشر أسماء مراكز الانتخاب وأرقامها على صفحات «فيسبوك» الخاصة بمكاتب الإدارة الانتخابية، في نطاق مدنهم، للتعرف على أسماء المراكز الجديدة.
هكذا تسير الأمور على خطين متناقضين، الأول يُسرع الخطى نحو الانتخابات، والثاني يضع العرقيل في الطريق كي تبقى حكومة الدبيبة بعد 24 كانون الأول/ديسمبر.
أما في الجانب الجزائري فعزا مسؤولون، من بينهم وزير الخارجية صبري بوقادوم، غلق المعابر الحدودية مع ليبيا إلى حالة الطوارئ الناجمة عن تفشي جائحة كوفيد-19. وأكد بوقادوم عزم بلاده على إعادة فتح المعابر الحدودية مع ليبيا، عبر فتح نقطة أو نقطتين حدوديتين، وهما معبر الدبداب – غدامس، والمعبر الذي يربط جانت الجزائرية بمدينة غات جنوب غرب ليبيا.
وزار مؤخرا وفد جزائري رفيع المستوى، ضم مسؤولين حكوميين من وزارة الداخلية والخارجية والتجارة والبنية التحتية والنقل والجمارك والحماية المدنية، معبر الدبداب – غدامس، من أجل الوقوف على آخر الاستعدادات اللوجستية والتقنية لإعادة فتحه. وما من شك بأن وجود حكومة ليبية قوية ومنتخبة في المستقبل، سيكرس الاستقرار على الحدود المشتركة مع الجيران. إلا أن ذلك يتوقف على مدى التقدم في تنفيذ خارطة الطريق وإجراء الانتخابات العامة في ميقاتها.
مسودة العباني
يجدر التوقف هنا عند المبادرة التي قدمها عضو مجلس النواب محمد عامر العباني، والمتمثلة بطرح مشروع قاعدة دستورية لانتخاب رئيس الدولة من الشعب. وميزة مشروع العباني أنه حسم الخيار بين النظام الرئاسي، الذي يُفضله، والنظام البرلماني الذي تسبب بتعقيدات كبيرة في ليبيا وتونس.
ومما جاء في المشروع أن رئيس الدولة هو الأعلى، ويمثل سيادتها العليا، وأن رئاسة الدولة تقوم على التداول، على ألا تزيد فترة الرئاسة عن خمس سنوات، ويتم اختيار الرئيس بالانتخاب المباشر من بين أفراد الشعب الليبي. وأسوة بالدستورين الأمريكي والفرنسي لا يجوز انتخاب الرئيس لأكثر من فترتين زمنيتين متصلتين أو منفصلتين.
كما تعرض العباني لمسألة شائكة في ليبيا تتمثل في مزدوجي الجنسية، إذ شدد مشروعه على ضرورة تحدُر أصول رئيس الدولة من ليبيا، وأن يكون والداه ليبيين، وألا تقل سنه عن أربعين سنة ميلادية، ولا تزيد على ثمانين سنة ميلادية، وألا يحمل جنسية ثانية إلى جانب الجنسية الليبية. وتُثير النقطة الأخيرة جدلا واسعا حاليا في صفوف النخب السياسية الليبية، التي يطالب بعضها بمراعاة اضطرار المعارضين للزعيم الراحل معمر القذافي للجوء إلى الخارج، هربا من البطش، وحصولهم على جنسيات البلدان التي أقاموا فيها.
في ثنايا هذا الجدل حول شروط الترشيح لرئاسة الدولة، برزت أصوات تدعو إلى إرجاء الانتخابات إلى تاريخ لاحق لم تُحدده، وهو الموقف الذي سبق أن رفضه مؤتمر برلين2 وأيدته في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. أما روسيا وتركيا فتميلان إلى الإرجاء كي تستمر قواتهما وقتا أطول في ليبيا، خدمة لغايات استراتيجية واضحة.
وأتت الدعوة إلى التأجيل من 21 عضوا في ملتقى الحوار السياسي، الذين اقترحوا إجراء الاستفتاء على الدستور في اليوم المُقرر لإجراء الانتخابات العامة. وإمعانا في إطالة عمر المرحلة الانتقالية اقترح أصحاب المبادرة أن يسبق الاستفتاء تشكيل عدة لجان دستورية وسياسية للنظر في إقرار مشروع الدستور، الذي سبق أن أعدته اللجنة التأسيسية المنتهية ولايتها، منذ العام 2017. وفي حالة عدم إقراره تُعتمد القاعدة الدستورية المعدة من قبل ملتقى الحوار السياسي.
لكن الأرجح أن هذه الفكرة ستُجابه بالرفض من غالبية الليبيين الذين انتظروا بفارغ الصبر انتهاء المرحلة الانتقالية وانتخاب سلطات جديدة تُباشر إصلاح أوضاع البلد وتعالج الاختلالات الكبرى التي يُعاني منها. ويعتقد مراقبون أن هذه الفكرة تستهوي رئيس الحكومة المؤقتة عبد الحميد الدبيبة، الذي يوجد عمُهُ رجل الأعمال علي الدبيبة في مقدم الموقعين على هذا الطلب. وما تُخفيه هذه الدعوة هو التمديد لحكومة الوحدة الوطنية المؤقتة إلى تاريخ غير محدد، بعد 24 كانون الأول/ديسمبر المقبل.
وهذا ما أغضب ممثل الأمين العام للأمم المتحدة لدى ليبيا يان كوبيش، الذي خاطب أعضاء ملتقى الحوار الوطني، مُشددا على ضرورة التوافق حول آلية لإجراء الانتخابات في موعدها «لأنه تفويض من الشعب الليبي لا يمكن الرجوع عنه» كما قال.
واعتبر كوبيش، في الكلمة التي ألقاها، في اجتماع أعضاء ملتقى الحوار المنعقد في جنيف، أواخر الأسبوع، أن ما هو على المحك هو «وحدة ليبيا واستقرارها وسلامها وسيادتها».
وكلما تعفنت الأوضاع في ليبيا، خرج أصحاب المقاولات السياسية بمشاريع وردية، ترمي إلى إبراز الأشخاص الذين يُمهدون لعودة الاستبداد، بالوجوه القديمة نفسها، ومن بينها سيف الإسلام نجل معمر القذافي، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية. وأعلن سيف الإسلام في حديث أدلى به إلى صحيفة «ذا تايمز» اللندنية أخيرا، أنه يعتزم العودة للحياة العامة، والترشح للانتخابات الرئاسية. وأفادت الصحيفة أن سيف الإسلام باشر مؤخرا سلسلة من الاتصالات مع دبلوماسيين غربيين وروس، لإثبات اعتماده عقب عودته للظهور في الحياة العامة، بالرغم من أنه ما زال مطلوبا للمثول أمام المحكمة الجنائية. لكن هل يقبل الليبيون أن يُلدغوا من الجحر مرتين؟