طرابلس ـ «القدس العربي»: منذ فشل خريطة الطريق التي توصل لها ملتقى الحوار السياسي الليبي في إجراء الانتخابات في 24 من كانون الأول/ديسمبر الماضي، تشعب المشهد الليبي، وشهد متغيرات جذرية على خريطته السياسية، وعادت المخاوف الفعلية من عودة الصراع المسلح وعودة ليبيا إلى نقطة الصفر بين انقسام في السلطة وحرب مدمرة جديدة.
المخاوف من العودة إلى المربع الأول تضاعفت بعد أن صوت البرلمان الليبي على اختيار رئيس حكومة جديد، ومنح الثقة لحكومته ورفض المجلس الأعلى للدولة هذا الإجراء جزئيا، والأهم رفض رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي الليبي التسليم إلا لسلطة منتخبة.
وبالنظر إلى التركيبة المحلية الليبية وإلى ما شهدته منذ اندلاع ثورة شباط/فبراير من انقسام وظهور تشكيلات مسلحة هيمنت على عملية اتخاد الرأي، وطغت بقوتها على مختلف السلطات في الدولة، فإن الاختلاف في ليبيا قد يكون مدمرا وداميا، وتواجد سلطتين ينحاز لكل منهما مجموعات مسلحة مختلفة يعتبر أمرا بالغ الخطورة، خاصة مع تواجد قوى دولية على استعداد لدعم واحدة على حساب أخرى أو العكس.
فمنذ تعيين البرلمان لباشاغا واصرار الدبيبة على موقفه من السلطة لم تتوقف البيانات الصادرة عن تجمعات من الكتائب المسلحة، كل يعلن دعمه لطرف ضد آخر، فضلا عن الاستعراضات العسكرية التي حملت في مضمونها رسائل تفيد بالجاهزية والاستعداد للتصدي.
مؤشرات التوجه إلى خيار الحرب والنزاعات المسلحة تصاعدت مع تأكيد رئيس الحكومة المكلفة من البرلمان عزمه التوجه لطرابلس لمباشرة عمله من هناك وتوجه مجموعة من الكتائب المسلحة إلى العاصمة لمساندته وقيام أخرى بإغلاق الطرق الرئيسية أمامها لمنعها من العبور، إلا أن تدخل مجموعة من الحكماء حال دون حدوث أي نزاعات مسلحة وعادت كافة القوى العسكرية إلى أماكنها.
باشاغا برر هذه التحركات قائلا إن مجموعة من القوى المسلحة التي يقودها قادة ساهموا في القتال منذ 2011 ولديهم شهداء، قررت التحرك نحو العاصمة طرابلس لحماية الحكومة، حاملين رايات بيضاء على سياراتهم، لكن مجموعات مسلحة قليلة جدا أقفلت الطريق أمامهم.
وفي معرض تبريره قال باشاغا إن «القوة قررت سلوك طرق ترابية نحو العاصمة، فأوقفتهم المجموعة المسلحة ومنعتهم، وذاك لإحداث فتنة لكن القوة المؤيدة لي لم تطلق رصاصة حتى لا تسفك الدماء، وعادت لمصراتة».
الدبيبة لم يلجأ إلى إغلاق الطرق البرية فحسب لمنع باشاغا من الدخول للعاصمة بل اتجه أيضا إلى إغلاق المجال الجوي أمام الرحلات الداخلية وهو ما لاقى استهجانا وحملة رفض واسعة مع صعوبة التنقل برا بين المدن الرئيسية كبنغازي وطرابلس مثلا.
اصرار على الانتخابات الاستمرار
الحلول التي لا يزال يتحدث عنها الدبيبة تتمحور في إجراء الانتخابات في حزيران/يونيو المقبل، وهو الخيار الذي أصبح شبه مستحيل مع رفض الجسم التشريعي للانتخابات حاليا وتمسكه المفاجئ بأولوية المسار الدستوري وهو الموقف الذي تبناه وما زال يتبناه نظيره الاستشاري الأعلى للدولة.
خطة الدبيبة التي أطلق عليها تسمية «إعادة الأمانة إلى أهلها» تقوم على إجراء انتخابات برلمانية فقط قبل 24 حزيران/يونيو المقبل، أي قبل موعد انتهاء خريطة طريق ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي اختار حكومته قبل عام في جنيف.
وقد اعتبر الدبيبة المجلس الأعلى للدولة ورئيسه خالد المشري حليفا جديدا بعد موافقته بداية ورفضه في النهاية لتعيين باشاغا رئيسا للحكومة ورفضه أيضا للتعديل الدستوري ومواقفه التي وصفت بالمتناقضة والتي تماشت ولو بشكل جزئي مع مواقف الدبيبة.
المشري برر هذه المواقف في تصريح جديد له نشر الخميس أنه اشترط في لقاء سابق جمعه مع رئيس البرلمان ونجل حفتر عدم تغيير الحكومة والسلطة التنفيذية قبل الاستفتاء على الدستور أو اتخاذ خطوات حقيقية في هذا الطريق.
وبيّن المشري أن باشاغا كان يعلم أن الذهاب في تغيير الحكومة بدون إنهاء القاعدة الدستورية يعتبر تجاوزا لما اتفق عليه، واصفا إيّاه بانه مندفع، وليس لديه أي مشكلة في حدوث تعطيل للمسار الدستوري.
إلا أن باشاغا وفي حديث سابق قال إن المشري بارك هذا المسار ووافق لكنه تراجع عنه بعد ذلك نتيجة ضغوط أنا أعرفها جيدا.
مبادرات دولية باهتة
التدخل الدولي وصف في بداية الأزمة وحتى اشتدادها بالضعيف، إلا أن اقتراب الصراع المسلح ومشاهد الأرتال المسلحة صاعدت من وتيرته نوعا ما حيث قالت المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني وليامز إن رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة ورئيس الحكومة المكلف من البرلمان فتحي باشاغا قد يجريان محادثات مباشرة لحل الأزمة السياسية.
وأوضحت وليامز في تصريحات لوكالة «بلومبرغ» الأمريكية أن هناك ردود فعل إيجابية من الدبيبة وباشاغا، مضيفة أن الشيء الجيد هو أن الجميع مستعد للمشاركة في حوار بناء وهذا ما يمكن البناء عليه وفق تعبيرها.
تصريحات ستيفاني وليامز نفاها رئيس الحكومة المكلفة من البرلمان ضمنيا خلال كلمة متلفزة حديثة له بثت الجمعة حيث كشف عن رفض الدبيبة الدخول في أي حوار رغم قبوله هو، وأعلن في هذه الكلمة عن استعداده للحوار استجابة لمساع دولية ومحلية مؤكدا أن القوى التي جاءت إلى طرابلس كانت تهدف إلى تأمين الحكومة وليس إشعال حرب في العاصمة.
الحرب أو الانقسام
بالحديث عن احتمالية اندلاع حرب جديدة في ليبيا قال المحلل السياسي والصحافي بدر شنيبة في حديث لـ «القدس العربي» إن «مؤشرات اندلاع الحرب مستبعدة في الوقت الراهن؛ نظرا لأن القوى الدولية الضامنة للوضع العسكري في ليبيا لا ترغب في الدخول في أي اشتباكات حاليا على نطاق واسع، ولكن احتمالية وقوع اشتباكات محدودة في بعض التمركزات ما زالت موجودة، لاسيما مع إصرار فتحي باشاغا على الدخول للعاصمة، واستلام المقرات الحكومية، في ظل رفض عبد الحميد الدبيبة».
وتابع شنيبة «شاهدنا يوم أمس الخميس زيادة حدة التوتر ولكن تدخل الأطراف المحلية وأيضا الدولية ومن بينها ريتشارد نورلاند السفير الأمريكي الذي طلب من الجانبين إيجاد حل سياسي حال دون ذلك».
ويرى المحلل السياسي الليبي أنه إذا استمر الأمر بهذا الشكل لفترة طويلة، فستذهب البلاد إلى انقسام سياسي، وذلك لأن إصرار فتحي باشاغا متواصل، وبدعم من المنطقة الشرقية وعلى رأسها رئيس البرلمان عقيلة صالح، وتيار الكرامة، والذين سيضغطون على باشاغا لتفعيل حكومته، وعدم الانتظار لفترة طويلة لتسليم السلطة في طرابلس، وبالتالي فتح مكاتب ودواوين المنطقة الشرقية لتصبح موازية لنظيرتها في العاصمة طرابلس، وهو سيناريو مطروح إذا استمر الجدال بين الطرفين لفترة طويلة.
وعن المجتمع الدولي فيضيف شنيبة أنه فقد زمام المبادرة بعد فشل انتخابات ديسمبر، وهو ما استغله مجلسا النواب والدولة وتحركا للسيطرة على المشهد، وإحداث صفقة سياسية، نشأ عنها تعديل دستوري، وتشكيل حكومة جديدة.
ويتابع الصحافي الليبي أن هذه السيطرة من الطرفين الليبيين تقلصت بعد حدوث أزمة جراء رفض عبد الحميد الدبيبة التسليم، وإصرار فتحي باشاغا على استلام المهام وتفعيل الحكومة، وهو ما أحدث أزمة جديدة أعادت للمجتمع الدولي زمام المبادرة للتدخل كوسيط وحلحلة التورم السياسي الحاصل.
وتوقع شنبية فتح حوار مباشر بين الرجلين للوصول إلى صيغة وسط مضيفا أن الصيغة ربما تكون حكومة ائتلافية، أو يبقى الأمر كما هو عليه حتى إجراء الانتخابات سريعا، وهو ما يدفع به المجتمع الدولي لأنه يعلم أن الأطراف السياسية فاقدة للشرعية والدعم الشعبي، وأن الليبيين يريدون انتخابات.
ومع تشعب أطراف المشكلة السياسية وإصرار كل من الحكومتين على ممارسة مهامها من وسط العاصمة طرابلس ورفض كل طرف التنازل للآخر يبقى المشهد وحتى إن حاول المتتبعون توقع مجرياته ضبابيا، لمعايشة ليبيا وقائع مماثلة في أوقات سابقة ولتفرع الأطراف المساهمة والمتدخلة والداعمة لكل حكومة.