ليتها مباراة كرة قدم!

حجم الخط
1

«حسرة» الملايين وانتقادات غاضبة بسبب خروج المنتخب المصري المبكر من كأس الأمم الافريقية، واتهامات بالفساد، والحديث عن الأضرار الكارثية التي أصابت «سمعة مصر»، وطلبات إحاطه في البرلمان وبلاغ أمام النائب العام ضد اتحاد الكرة، وساعات ممتدة للبكاء على اللبن المسكوب، الذي لا يتجاوز مباراة وبطولة كروية.
لا يقصد بهذا تقليل قيمة الحدث، ولكن وضعه في حجمه الصحيح والتعامل معه بطريقة تتسم بالرشادة، حتى لا يكون مجرد غضب آخر معلب يوظف من أجل الإلهاء، ولا يهدف إلى المحاسبة أو بناء الأسس اللازمة لها في المستقبل. كما يقصد منه مقارنة الخطاب المستخدم في الهزيمة الكروية، وكيفية التعامل مع معاناة الناس الأكثر عمقا، التي لا يصلحها هتافات الفوز، ولا تتغلب عليها دموع الهزيمة، حتى إن غيبت الدموع مرحليا الرؤية الكاملة والواضحة للأشياء.
اللحظه كاشفة كما محاولات استخدامها سريعا من أجل تجاوز الأحداث الأعمق، خاصة أنها جاءت بعد وقت قصير من رفع أسعار المحروقات وغيرها من السلع والخدمات المرتبطة بها بشكل مباشر، أو غير مباشر، مع توقع زيادات في قطاعات أخرى مازالت تصدر عنها تصريحات وتقديرات تتعلق بحجم الزيادات المتوقعة، بما فيها أسعار الوحدات السكنية وتذاكر الطيران وتأثيرها على تكاليف الحج وغيرها من الأمور التي تمس الحياة اليومية للمواطن، وتعمق المعاناة الاقتصادية.
كان المتصور أن يكون الانتصار فرصة من أجل تسويق خطاب الإنجازات، والحديث عن تحمل الشعب المعاناة، في وقت يتم الحصول فيه على بعض الفرح الذي لا يترجم بالضرورة الي فوائد مادية ملموسة للمواطن، ولا يحقق تحسينا في خدمات التعليم أو الصحة للطفل الباكي، الذي وجد البعض في صورته وسيلة لتضخيم حجم الكارثة، متجاوزا عن فرص هذا الطفل أو غيره في حياة كريمة بافتراض سيناريو الفوز بالبطولة والكأس، وليس المباراة الضائعة فقط، ولا تأثير المباريات الأخرى التي فازت فيها مصر، أو الدروس التي تم تعلمها وتطبيقها من المباريات الأخرى التي خسرت فيها من أجل ضمان حياة أفضل لأطفال الوطن.
غيرت الهزيمة أبجديات السيناريو المعد في حالة الفوز، ولكنها حافظت على المستهدف. وبدلا من الحديث عن الفوز بوصفه إنجازا آخر للسلطة يبرر الإنفاق الضخم، إلى الحديث عن إنجاز ضاع بسبب الفساد، وتحديدا فساد اتحاد الكرة، الذي ظهر الحديث عنه بشكل سريع، وكأنه مجرد ملفات جاهزة يتم استخدامها وقت الطلب، والتجاوز عنها في أوقات أخرى. تحول الحديث من إنجاز الفوز المرتبط بإنجاز الفرص التي قدمت للمنتخب، إلى فساد البعض الذي قلص قيمة تلك المكاسب وعمق خسارة ومعاناة الشعب.

تتحول كرة القدم في عالمنا إلى عنصر من عناصر خطاب الإعلام من أجل تجسيد إنجاز الفرد وتحويل الأنظار عن السلبيات

فرضت الضرورة التأكيد علي أن المسؤولية عن الهزيمة محدودة النطاق، وتقع في إطار الاتحاد واللاعبين والمدرب، ولكنها لا تتجاوز هذا ولا تعبر عن الواقع العام، ولكن المفارقة أن تلك الجهود السريعة من أجل التخلص من المسؤولية كانت كاشفة عن حجم التجاوز القائم باسم تحقيق سعادة شعبية عابرة، يفترض أن تبرر فسادا يدفع الوطن ثمنه. ظهر هذا واضحا في تصريحات من شخصيات معروفة، أكدت على تواجد ملفات الفساد وضرورة فتحها، أو تسريبات عن تهديد الاتحاد بفتح الملفات المغلقة إن لم يتقدم بالاستقالة، من أجل تخفيف الغضب الشعبي، وهو ما حدث بعد تجاذبات تطرح الكثير من التساؤلات عن وجود نية حقيقة في المحاسبة، مقابل استخدام الغضب وتوظيفه من أجل تجاوز اللحظة بكل ما فيها من تشابكات رفع الأسعار ومرارة الهزيمة رغم الامتيازات.
يتصور وفقا لتلك التصريحات والتسريبات والبلاغ المقدم إلى النائب العام أن الانتصار في المباراة كان سيتبعه مديح وتجاوز عن الفساد وغياب المحاسبة، كما حدث بعد أحداث وهزائم أخرى مثل الهزيمة في نهائيات كأس العالم في روسيا. يعود السؤال كما يطرح منذ ثورة 25 يناير للواجهة، إن كان المتحدث يؤكد على وجود فساد منظم، لماذا لم يتوجه للجهات المختصة؟ وان كانت الهزيمة بررت الحديث عن الفساد كيف يمكن استخدام النجاح لتمرير الفساد وترحيله من مرحلة إلى أخرى؟ ولا يبدو الحديث عن الفساد والمحاسبة حقيقيا وهو يخرج من لحظة الهزيمة والرغبة في تحميل جماعة محددة مسؤولية ما حدث، من أجل تجاوز إمكانية التفكير خارج الصندوق المفترض، والحديث عن الصورة الصغيرة والواقع الكبير، والفساد المرتب في أدراج تنتظر لحظة سقوط. من جانب آخر يأتي غياب الانتصار ليكرر خطاب الشعب، الذي ينتظر الفرح عبر كرة، والذي حرم من فرصته، وعليه أن يتعايش مع المعاناة بدون فرصه لتنفيس الغضب والقهر في صورة هدف. يتقلص الوطن مرات عديدة كما تهمش مطالب وحقوق مواطنيه، وان كان التقليص المتكرر استخدامه يتم التعبير عنه في صورة كرة يراد لها أن تعبر عن كرامة وإنجاز، وأن تمتص غضبا وحرمانا. يبرز التسيس في خطاب الهزيمة بصوره واضحة، بعد أن كان ينتظر ان تكون النتيجة هي انتصار يرتفع معه صوت الهتافات عاليا عن صوت الغضب من ارتفاع أسعار المحروقات. تناول يبرز مساحة التناقض القائمة بين التعامل مع خسارة مباراة ومعها بطولة، وخسارة ثورة ومعها معاناة. وفي وقت يصعّد البعض خطاب التعامل مع هزيمة المنتخب بالحديث عن مشهد العار والسمعه الوطنية، والملفات التي يتم غض الطرف عنها، يأتي التعامل مع رفع أسعار المحروقات بنِسَب تصل إلى 30% ومعها أسعار اخرى يصعب حصرها سريعا، أو معرفة التكلفه الحقيقية التي تضيفها على المواطن، يأتي التعامل معها بوصفها إنجازا.
يبرر البعض الرفع بحديث عام عن سعادة الجماهير، أما التفسير الذي رَآه البعض مستفزا فهو أن القرار من شأنه القضاء على مشكلة «الفكة» أو القيم الأقل من الجنيه، التي سبق وتحدث عنها الرئيس مطالبا بتركها من أجل مصر. وبهذا يصبح القرار تقنينا من نوع ما لترك «الفكة» بطريقة رسمية، بدلا من النقاش حولها مع العامل أو تركها له. وإن كان هذا الإنجاز الغريب لا يجيب عن السؤال الآخر الأكثر أهمية للمواطن وهو، لماذا لا يتم تقليل السعر والتخلص من قيمة»الفكة» في السعر الأصلي، وبالتالي تقليل التكلفه الكلية للمحروقات وليس رفعها بتلك النسب المرتفعة، بوصفها الإنجاز الذي يمكن ان يحتفل به المواطن المطحون أصلا؟ لا أحد يجيب عن تلك التساؤلات ولا يطرحها لأن المطلوب هو تجميل إنجازات ما يسمي»تحريك» الأسعار، كما يتبادل في وسائل الإعلام وكأن تغيير المصطلح من زيادة – وهو الوصف الحقيقي- إلى تحريك من شأنه ان يغير الحقيقة، كما يحدث في الحديث عن المعاناة بوصفها إنجازا، والضغوط بوصفها إصلاحا، والصمت بوصفه تفويضا. لا يقول أحد لماذا يحافظ التحريك على اتجاه الصعود، إن كانت العبارة محايدة، ولماذا لا يعرف الانخفاض حتى يتسق مع التسمية المستخدمة وانخفاض سعر الدولار أمام الجنيه وغيرها من المؤشرات الإيجابية المفترضة كما يؤكد الخطاب الرسمي.
في وسط بكائية المنتخب ورفع الأسعار، كان البرلمان يناقش إجراءات بيع الجنسية، وبعض الأصوات من داخله توقع مذكرة اعتراض خوفا من الانعكاسات المحتملة في واقع ملتبس يبرر كل المخاوف، والأمن والجهات الرسمية بدورها تتأكد من صمت الشارع واستقرار الأوضاع، تأكيدا على إنجاز قبول الزيادات، أو تحريك الأسعار، باعتبار أن الصمت قبول وقناعة وليس تعبيرا بطريقة أخرى عن الغضب وغياب الخيارات في واقع يزداد تقييدا، ولسان الحال في مرارة رواية «عائد إلى حيفا» وفي ذكرى وفاة غسان كنفاني وهو يقول «أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن ألا يحدث ذلك كله».
قد يكتشف محمد صلاح أن اللعب في مصر أكثر خطورة من غيرها، لأن الكرة لا تتحرك في مساحتها المحددة، ولكنها تتحرك في ساحات عالم السياسة، حيث الانتصار لابد أن يضخم، والخسارة لابد أن تتجسد في شخص أو كيان، بعيدا عن السلطة العليا وبعيدا عن التماس مع أساليب الحكم والإدارة، وحيث المستهدف أكبر من حجم مباراة وبحجم مكانة وطن وسعادة شعب وروح معنوية، يدفع الكثير من المال في الأماكن الخطأ من أجل رفعها – كما يقال رسميا- بدون أن تتجه الأموال، وكما يفترض، إلى تحسين الأوضاع المعيشية وتحقيق عدالة اجتماعية وتحسين الخدمات من أجل مواطن ووطن أفضل وفرص حياة. تتحول كرة القدم في عالمنا إلى أكثر من مباراة وبطولة رياضة، وأكثر من فرحة شعبية في حدود هذا الإنجاز المفترض في عالم الرياضة، تتحول إلى أداة من أدوات السلطة، وعنصر من عناصر خطاب الإعلام المستخدم من أجل تجسيد إنجاز الفرد وتحويل الأنظار عن السلبيات. تتحول إلى وسيلة إلهاء لا تتضمن كيف يتم تسديد الكرة، والأسباب الموضوعية خلف المكسب والهزيمة، لأنها في النهاية تخضع لاعتبارات خارج الملعب وخارج الأسباب الموضوعية. في النهاية نقف أمام مباراة وهزيمة كاشفة عن كيف يرى البعض تلك الدقائق بوصفها أهم من حياة، ومباراة بوصفها أهم من ثورة ووطن، وخسارة لحظة لا تعود في النهاية على المواطن بوصفها أكثر إحراجا من غياب العدالة الاجتماعية والحريات. في الحياة قد تتمنى أن تكون بعض الأشياء مثل ألعاب وبرامج الحاسب الآلي حيث يمكن أن تعيد اللعب والبدء من جديد، وفي الواقع يمكن أن تتمنى أن تكون حياة الإنسان ومصير الدول لعبة كرة قدم يمكنها أن تحرك الجميع من أجل المحاسبة باسم الوطن، وحق المواطن في السعادة، ولكن الأكثر أهمية أن تكون تلك المحاسبة حقيقية لعل مباراة تغير الواقع، ويتحول الإلهاء إلى حقيقة والدموع إلى فرحة وطن.
كاتبة مصرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد السوري:

    لاتلوميهم فبعد كل الهزائم والخيبات السياسية والعسكرية وبعد الجرائم في رابعة وهزيمة حليفهم حفتر امام احرار ليبيا ولاتنسي الحرب في سيناء غيرها من الخيبات فهم ينتظرون اَي نصر وحتى لو كان بطولة على فرق رياضية يعتبرونها غير أهل لمقابلة وهزيمة ( الفراعنة) ولكن خاب أملهم حتى اهرامات الجيزة وأبو الهول بكوا من العار اللذي وصلهم

إشترك في قائمتنا البريدية