«ليس الأسوأ دائماً أكيداً» عنوان كوميديا شهيرة لأحد كبار الكتّاب المسرحيين الإسبان في القرن السابع عشر. وقد أصبح عنوان تلك المسرحية قولاً مأثوراً، غالباً ما يُستخدم للتدليل على بقاء الأمل في وضع يدعو للتشاؤم. وبالطبع، ففي منطقة تغلب فيها الأوضاع الدافعة إلى التشاؤم، من المفيد أن نؤمن بأن الأسوأ ليس دائماً أكيداً بالرغم من صعوبة الإيمان في معظم الأحيان. بيد أن حديثنا هنا ليس عن أوضاع منطقتنا، بل هو عن الأوضاع العالمية، وعلى الأخص الانجراف إلى أقصى اليمين الذي ميّز تلك الأوضاع في العقود الأخيرة، وقد تفاقم إثر الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في عام 2008 والمعروفة باسم «الركود الكبير».
فقد بدت الأحوال في السنوات الأخيرة وكأن العالم سائرٌ لا مُحال على درب شبيهة بما عرفته سنوات ما بين الحربين العالميتين في القرن المنصرم من صعود لأقصى اليمين في العالم، وفي أوروبا على وجه الخصوص، صعود حفّزه استيلاء الفاشيين على الحكم في إيطاليا وبلغ ذروته إثر استيلاء النازيين على السلطة في ألمانيا. طبعاً، لا يتكرّر التاريخ بحذافيره وليس الحاضر نسخة طبق الأصل عن الماضي. فثمة فروق جليّة بين فاشية القرن الماضي وما بات يسمّى بالفاشية الجديدة (neofascism) في القرن الراهن، أهمها نابع من الدروس الناجمة عن الهزيمة التي مُنيت بها الفاشية في الحرب العالمية الثانية، وأيضاً عن ارتفاع المستوى الثقافي للشعوب والدروس الناجمة عن انهيار المنظومة السوفييتية بما بيّنه من توق الشعوب إلى الديمقراطية.
هكذا تخلّت الفاشية الجديدة عن المظاهر العسكرية التي ميّزت الفاشية القديمة، كما تخلّت عن استخدام العنف المسلّح طريقاً إلى الحكم، وإذ احتفظت بأهم عناصر الأيديولوجيا الفاشية بمضامينها القومية المتعصبة والعرقية، سَعت إلى الوصول إلى السلطة بواسطة الانتخابات مع تفادي اللجوء إلى الأساليب العنيفة وضمان استئثارها بالحكم من خلال إجراءات تدريجية تشدّ الخناق على المعارضين، بحيث تستمر في الحكم وهي تواصل إجراء انتخابات دورية بدرجات متفاوتة من المصداقية. هكذا اندرجت الفاشية الجديدة في تسلسل من الأنظمة السلطوية بحيث باتت الحدود بين السلطوي والفاشي الجديد مبهمة بعض الشيء، أهم فارق بينهما مركزية التعصّب القومي والعرقي وحدّة العداء للتحرّر الثقافي وحقوق النساء، ولليسار على وجه العموم.
إن الأسوأ ليس دائماً أكيداً، كما بيّنته بصورة مفاجئة للغاية نتيجة الدورة الثانية من الانتخابات النيابية الفرنسية التي شهدت فوز ائتلاف اليسار بأكبر كتلة نيابية والتي لم يحظَ أقصى اليمين فيها سوى بالمرتبة الثالثة
وقبل سنوات قليلة، بدا وكأن هذا التسلسل من السلطوية إلى الفاشية الجديدة في طريقه إلى الهيمنة على الصعيد العالمي إثر استلام دونالد ترامب لمقاليد الرئاسة الأمريكية (بالرغم من حصول منافسته على عدد من الأصوات فاق ما حصل هو عليه بما ناهز ثلاثة ملايين). وبات المشهد العالمي مخيفاً، يجمع بين تصاعد المظاهر السلطوية وصعود الفاشية الجديدة. حصل ذلك في الشمال العالمي، مع ترامب وبوتين وحكومات المجر وبولندا وإيطاليا، وتزايد الشطط اليميني لدى المحافظين في بريطانيا، ناهيك من نتنياهو إذ تنتمي الدولة الصهيونية سياسياً إلى الشمال العالمي. كما حصل الأمر في الجنوب العالمي، مع اشتداد السلطوية في الصين وتركيا (في هذه الأخيرة من خلال تحالف أردوغان مع الفاشيين الجدد الأتراك بدءاً من عام 2015) وسيادة الفاشية الجديدة في الهند والبرازيل ووصول يميني متطرّف إلى الحكم في الأرجنتين، فضلاً عن صمود حكم بوتين بعد الهزيمة التي مني بها في بداية اجتياحه لأوكرانيا.
وقد ترافق ذلك بتخوّف شديد من استمرار صعود الموجة، وعلى الأخص وصول أقصى اليمين إلى الحكم في فرنسا وألمانيا، الدولتين المركزيتين في الاتحاد الأوروبي. هذا وقد بلغ التشاؤم ذروة إثر الانتخابات الأوروبية التي برز فيها صعود أقصى اليمين على النطاق الأوروبي، لاسيما في ضوء الصدمة التي شكّلتها النتيجة الانتخابية في فرنسا حيث نال أقصى اليمين أربعين في المئة من الأصوات التي جرى الإدلاء بها. وإذ اتخذ الرئيس الفرنسي ماكرون قراراً أرعن بحلّ الجمعية الوطنية بما أثار الذعر من فوز الفاشيين الجدد بقيادة مارين لوبين في الانتخابات النيابية الطارئة، تفاقم الخوف مع اتّضاح هرم الرئيس الأمريكي بايدن وتزايُد حظوظ ترامب في الفوز بولاية رئاسية ثانية، سوف تكون أسوأ بكثير من الأولى، خاصة بعد أن منحته المحكمة العليا، التي ساهم هو في تعزيز أكثريتها اليمينية لمّا كان رئيساً، منحته صكاً على بياض لما قد يفعله خلال ولاية ثانية.
بيد أن الأسوأ ليس دائماً أكيداً، كما بيّنته بصورة مفاجئة للغاية نتيجة الدورة الثانية من الانتخابات النيابية الفرنسية التي شهدت فوز ائتلاف اليسار بأكبر كتلة نيابية والتي لم يحظَ أقصى اليمين فيها سوى بالمرتبة الثالثة من حيث عدد المقاعد (ولو كان هذا العدد أكبر مما حاز عليه أي حزب آخر بمفرده). وقد سلّط هذا الحدث الهام الأضواء على تطورات شهدتها المرحلة الأخيرة عاكست الميل العالمي إلى تزايد السلطوية وصعود أقصى اليمين، أهمها فشل ترامب ذاته في عام 2020 في الحصول على ولاية ثانية، واضطرار الحكم الصيني إلى التراجع بسرعة أمام الاحتجاج الشعبي على مواصلة حبس الناس في المنازل بحجة الكوفيد، وهزيمة بولسونارو في البرازيل، والتراجع الانتخابي الذي أصاب أردوغان في تركيا ومودي في الهند، وهزيمة اليمين البولندي المتشدّد، وفوز حزب العمال البريطاني (رغم قصر المسافة السياسية التي تفصله عن المحافظين).
هذه التطورات المعاكسة للموجة اليمينية العارمة التي سادت في السنوات الأخيرة لا تعني بالطبع أن الموجة قد انعكست، ولا مجال للتفاؤل إزاء معطيات مقلقة أهمها استمرار الصعود الانتخابي لأقصى اليمين في أوروبا بالرغم من أفشاله. فإن العامل الحاسم هذا العام سوف يكون حصيلة الانتخابات الرئاسية الأمريكية في الخريف. فلو فاز ترامب سوف يعطي الأمر دفعة قوية للصعود الفاشي الجديد على النطاق العالمي وينذر بتحولات مخيفة داخل الولايات المتحدة بالذات. أما الخلاصة، فهي أن الأمل لا زال ممكناً والأسوأ حقاً ليس أكيداً، شرط أن يقترن الأمل بتفاؤل الإرادة والعمل الحثيث على دحر الموجة اليمينية حيثما وُجدت.
كاتب وأكاديمي من لبنان