“ليس لنا هذا العالم”: مختارات شعرية للبناني عبده وازن

هاشم شفيق
حجم الخط
0

أمسى تقليداً أن يسعى شاعر مكرس، له تجربته الشعرية وعالمه الخاص والمتميز، لانتقاء ما يحلو له من قصائد، يرى أنها الأقرب إلى روحه، والمثال القادر على الاستدلال إلى أفقه الشعري، ليقدمها منتخبة من عالمه الشعري، لتكون الدليل للقارئ الذي لم يستطع أنْ يلمَّ بأشعار متناثرة، في دور نشر عربية عديدة ومختلفة، لشاعر عربي ما، أصدر العديد من المجاميع الشعرية، من دار هنا وأخرى هناك، من بلد المنشأ، أو من بلد عربي، أصدرت للشاعر مجاميع شعرية معيّنة، وهنا سيكون بمقدور القارئ الذي لم يستطع اللحاق ومتابعة تجربة شاعر معيّن، أن يطلع على المنتخب من أشعار هذا الشاعر، في كتاب واحد جامع، يحمل عيّنات من مجاميع شعرية مختلفة، تقرِّب صورة الشاعر إليه، وتجعله يُكوِّن رأياً فنياً فيه، وتُدله في الوقت عينه، إلى السياق التعبيري والمعرفي والفني الذي يكتنف عمل الشاعر، وما تنطوي عليه طريقته ورؤيته في الكتابة الشعرية، تلك التي قدّم فيها أشعاره في كتاب منتخب، يرى أنها قادرة على تمثيل تجربته الشعرية عامَّةً .

الشاعر اللبناني عبده وازن لجأ أخيراً إلى خوض غمار هذه التجربة، فصدرت له مختارات جامعة ومنتخبة من مجاميعه الشعرية، تلك التي سبق وأن صدرتْ له في مجاميع مستقلة، في بيروت وغيرها من البلاد العربية .

نهلت المختارات من خمس مجموعات شعرية متأخرة للشاعر، وجد أنها تستطيع أن تمثله وتقدمه خير تقديم للقارئ العربي، وقد لاحظنا في المختارات هذه أنه قد أهمل تجاربه الشعرية الأولى، معتمداً على ما صدر له في نهاية التسعينيات من القرن المنصرم .

ما يميز هذه المختارات هي وحدة التجربة، التجربة الوجودية وما يتفرع منها من تفاعل الأنا بالآخر، حسب جان آرثر رامبو الشاعر الفرنسي” الأنا هو الآخر”، وأدل ما يقدمه هذا الرأي هو انصهار الذات بالعالم، والانهمام بمشاكله، ومراقبة التدهور الوجودي للبشرية، في حروبها وتطلعاتها من أجل الحرية، أو سعيها لقول كلمة لا في وجوه الطغاة الذين حولوا الأوطان إلى خرائب ومسالخ بشرية .

عن هؤلاء وغيرهم، عن أعداء الإنسانية جمعاء يكتب عبده وازن أشعاره، عن الحياة بكل تقلباتها، يكتب عن المطاردين والمقموعين والغرباء والراحلين والعابرين والغائبين والمهجَّرين والمنكوبين، يكتبها بعين الشاعر الرائي، الشاعر المهجوس بالتداعيات اليومية للكائن، الشاعر المكلوم بأنين الجرحى والمغلوبين على أمرهم.

الشاعر المسكون بكل ما يقع قربه من مشاهد يومية، لا تقرّها الإنسانية، مشاهد الخراب والموت المجاني، والخيام العابرة للحدود، التهجير القسري، والقتل اليومي والذبح على الهوية، كل ذلك سنلمحه على نحو دلالي، وفني، وبطريقة فيها كدح جمالي وانزياح لغوي، وليس بطريقة تقريرية، وسطحية، بل بوعي شاعر مُتقِن لأسرار التحوّلات الشعرية، ذات الأبعاد التصويرية، والاستعارية والرمزية .

قال يسوع ذات يوم “مملكتي ليست من هذا العالم”، وهنا الشاعر يقول: “ليس لنا هذا العالم” الشعر الخلاق وليد للرؤيا، والشاعر يحمل دائماً صليبه، متخطياً بذلك، الأعراف، والمناسك، والتقاليد، والمحظورات، والأسوار التي تقام بوجه الشاعر الحقيقي حيثما كان، لأنه الوحيد القادر على قول كلمة لا في أزمنة نعم .

إذاً ما أكثر الغرباء والوحيدين والمعزولين والناس المهزومين في شعر عبده وازن، وها هو يقول في قصيدة “سراج الغرباء” من مجموعته الشعرية “أبواب النوم” :

” لا تنتظر السماء غرباءها،

إذا تأخروا عن وليمتها، يمكثون على العتبة،

يحصون جروحهم، كما الغصون أوراقها،

في وحشة الطريق يجلس الغرباء،

ينتظرون نجمة، وربما مطراً،

حتى إذا لاح ضوء لهم، أطفأوا حيرة نظراتهم،

وسروا إلى آخره” .

هكذا يتوغل الشاعر وازن في الوحشة الأنسية، ليستبطن التفاصيل الجوانية للكائن، حاملاً مثل برومثيوس مشعله ليضيء الطريق للعابرين، وليستطلع المهاوي والفخاخ والأسوار المحيطة بالطريق، وفي قصيدة “العابرون” نجد التدليل على ذلك:

“هم الذين خرجوا في ذاك الليل من ملوحة عزلتهم وراحوا يرنون إلى السماء، الصوت الغريب الذي انبثق أمامهم كانوا ينتظرونه منذ ذاك الغسق، وحين رحلوا لم يرافقهم العصفور ولا السحابة، ووراءهم لم تكن دروب ليعودوا بيأسهم وأوهامهم، إنهم العابرون الذين لم يكن لديهم ما ينتظرونه” .

وعلى هدي المقولة الرامبوية “الأنا هو الآخر” تلوح الذات الممتزجة بالعالم، الذات التي تمحو كل ما يقترحه التذويت من مهام شخصية ومن تطلعات نرسيسية، لتتوارى الذوتنة في عالم الجمع والأغيار، ولكي تصوغ الكائن المزدوج روحياً، الكائن ذا الأبعاد، الخارج من باطنه وعالمه وكينونته ليتعانق مع الرؤى الغَيْريّة، والساعي لأن يكون المرآوي المخترق مرايا الآخر، عابراً بذلك مفهوم الجنوسة والمفهوم الهُوياتي لدى الآخر، الآخر الغريب والعابر والمطرود والمعزول والمهاجر الباحث عن مضطرب وملجأ ومأوى، وهذا ما تجلى في مجموعة “سراج الفتنة” ولا سيما في قصيدة “الآخر” والتي توضح سطورها الآتية هذا الهاجس :

” انتظرني، سآتي حتماً، لأنضمّ اليك ونصبح واحداً، في موتنا ويقظتنا، وعلى الرابية سنلمح نارنا التي حملها الهواء إلى ناحية الليل.

انتظرني لأني من دونك لا أعرف حتى وجهي، معا سنكون ما كنته، وحدي قبل أن تدهمني شمس العالم، معاً سنكون ما كنته وحدك قبل أن أبصرك في عينيّ، قبل أنْ أراك تتهادى خلفي حيناً وتحل فيَّ حيناً” .

أما الحياة التي خبرها كشاعر، حيث عاش تقلبات حقب وأزمنة وتواريخ، فهو ما فتئ يطاردها، لينال من اكسيرها  القطرات، ليكتنه تفاصيلها ونسيجها الشائك والصعب، والملتف حول رقبة الإنسان، ليغوص عميقاً في شعابها وتلافيفها، عله يعثر على المراد والألفة والحنان، فالمراد مجرَّح، والألفة ذابلة والحنان مخدوش، أنى ولى الوجهة لاقتها الحيرات والخطوب والجوائح التي تطوق البشرية بالتهاويل، والمسالك الوعرة والشراك أحياناً، ولكنه رغم ما تنطوي عليه الحياة من صعاب فهو يقتحمها، مستنطقاً ومتسائلاً ومتشككاً بعطاءاتها والمآلات التي تحملها للإنسان على هذا الكوكب، وبالأخص لمكانه ورقعته التي يقف عليها، وها هوذا في مجموعته الأحدث” حياة معطلة” نراه يطرح رؤياه في قصيدة شبه قصيرة بعنوان” حياة “، وهي تشي بما يحمل الديوان من تصورات وأفكار ورؤى :

” نرتب حياتنا بما توافر من مناظر وأزهار، من أصدقاء نرسمهم على الورق،

نخلق صورة أخرى لهذا العالم، لهذه الأرض القتيلة، نبتدع مدينة بلا اسم،

نسوّرها بالقصب والغيوم، إنها الحياة التي تفرّ أمامنا، الحياة التي لا نلتقطها،

الحياة التي يقطنها أحد، نرتبها بما توافر من حبر، من ضوضاء وأحلام،

من آلهة يهيمون في الضوء، وأناس تنتابهم حيرة زرقاء” .

يطغى السرد على مجاميع عبده وازن الشعرية المتأخرة، تنزوي الكناية، لتظهر الصورة بكل مقاصدها الدلالية، وتحل الحكاية في قصائد عدة، الحكاية لكي تروي ما جرى، من وقائع دامية اختزنتها العين لتكون الشاهد الدال، الشاهد الذي يحمل البرهان والقرينة، الشاهد الرقيب على الأيام التي تمرّ، ولكن الشاعر حين تمر لا يودعها ، بل يستجوبها، فثمة أسئلة تحملها العين الرائية، وثمة موقف للشاعر، ما قيمة الشعر إذا لم يحمل موقفاً ما من الحياة، وتداعياتها وتحولاتها المرئية/ والمرصودة بعين الشاعر الرقيب على الجلاد والحاكم والخارج على القانون، واللص الذي يدفع باتجاه سيادة الفساد، والفوضى التي باتت تسمى في أزمنة المحتلين والغزاة “الفوضى الخلاقة”، ما قيمة الشعر إذا لم يُشِرْ ويُدِلْ ويُدِن في أزمنة الخراب؟

ومن مجموعته الأخيرة التي ضمتها المختارات “الأيام ليست لنودعها” ثمة سرد وحكايات ومرويات شعرية، تتبع ما يحدث هنا وهناك، ففي قصيدة “كأنهم نائمون” مهداة لأطفال سوريا وفلسطين نقرأ :

” إنهم نائمون،

على وجوههم، يرفّ ملاك من أرجوان،

ينتظرون امرأة سقطت عن حافة حلم،

طيفهم سيوقظهم انْ غافلهم البرد ….

سيمكثون نائمين، الملاك الجريح سيحرسُ نومهم

طيفُ أُمّهم سيحلق فوقهم” .

عبده وازن: “ليس لنا هذا العالم”

دار المدى، بغداد 2018

336   صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية