لم يعد عبد الباري عطوان رئيسا لتحرير هذه الجريدة. طبعا أنتم صرتم تعرفون ذلك بعدما قرأتم كلمته الوداعية يوم أمس. أما أنا، رفيقه في هذه المسيرة الطويلة منذ الحرف الأول فيها، فلم أعرف بهذا الخبر المفاجئ إلا قبل نصف ساعة من اجتماع عام دعي اليه كل موظفي الجريدة في لندن من دون أن يعرفوا (أيضاً) سبباً لهذا الاجتماع النادر.
كنت خارج المكتب لأمر ما، وعندما عدت قالت لي زميلتنا ‘كليمنتين’: الأستاذ عبد الباري عطوان يسأل عنك. توقعت أن يكون للأمر علاقة بالاجتماع الطارئ الذي سيعقد بعد نصف ساعة.
فكرت أن ذلك الاجتماع يتصل، ربما، بشهر رمضان وروزنامة العمل فيه.. ولكن روزنامة العمل في شهر رمضان لا تحتاج الى اجتماع طارئ لكل موظفي الجريدة بمن فيهم غير العاملين في ‘التحرير’، فذلك يتكفل به تعميم داخلي.. كما جرت العادة.
لا بد أن هناك سبباً مهماً، بل ليس عادياً، وراء هذا الاجتماع غير المسبوق. طافت في ذهني أسباب عديدة ولكن ولا واحد منها بدا لي مقنعا.
لم يتركني عبد الباري نهبا للحيرة والتساؤل وقتا طويلا حتى عرفت السبب. لم يكن يبدو مختلفا، عما عهدته، عندما دخلت عليه. قام، كالعادة، من وراء مكتبه وجلس على كرسي قبالتي.
أبدى إعجابه بـ’التي شيرت’ الذي أرتديه وقال، بشيء من الارتباك: بعدك شباب!
مددت يدي الى لحيتي الخفيفة شبه البيضاء وقلت له: شباب مكتهلون في شبابهم. ضحك، ثم فجأة غامت ملامحه وقطع حديث المجاملات العارض هذا وقال: أردت أن أخبرك قبل أن أبلغ الزملاء في الاجتماع العام. وقبل أن يترك مجالا للسؤال عن فحوى ذلك ‘الشيء’ الذي سيبلغني به قبل الزملاء الاخرين قال: لقد استقلت من الجريدة!
سمعت كلماته. رأيت معناها، المؤلم على وجهه، حرفا حرفا، غير أني لم أصدق ما سمعت. فقلت له هل قلت إنك استقلت من الجريدة!
فأكد ذلك.
ولكن كيف تستقيل من الجريدة وأنت مالكها؟!
أخبرني بما لم أكن أعلم. كنت أعرف أن هناك مشاكل مالية، مزمنة، تواجه الجريدة التي لم تتنفس، براحة، في يوم من الايام. كنت أتصور أن آتي يوما الى مكتب الجريدة، متأخرا بعض الشيء كعادتي، واجده مغلقا. كان يخطر في بالي (كثيراً في الفترة الأخيرة) أن أدخل على عبد الباري، من دون إحم أو دستور، وأقدم له استقالتي.
كانت هناك تصورات عديدة في ذهني لتوقف الجريدة، أو مغادرتي لها، أنا الذي دخل مبناها خطوة بعد خطوته منذ نحو ربع قرن.. لكن، لم تبلغ تلك التصورات هذا المبلغ الفنتازي: استقالة عبد الباري نفسه. مغادرته مع دفتر تليفوناته والدموع تهطل من عينيه.. وعيون موظفي الجريدة الذين اصطفوا لوداعه بعدما فاجأهم، بل صعقهم، بخبر استقالته.
‘ ‘ ‘
ليس سهلا علينا أن نأتي الى الجريدة ولا نراه. ليس سهلا أن لا نسمع، بعد الآن، صوته وهو يرحب بضيوفه الذين يأتي معظمهم من غير موعد ويدقون عليه الباب ويدخلون، كأنهم يدلفون الى ‘مضافة’ في قرية. ليس سهلا عليّ، أنا الذي يجاور مكتبي مكتبه، أن لا أسمع سعاله الشديد عندما تداهمه واحدة من تلك النوبات التي رافقته طويلا وتنهكه تماما.
ليس سهلا.
لقد مضى نحو ربع قرن على ذلك اليوم الذي اتصلت فيه من مكتبي في جريدة ‘العرب’ اللندنية لأخبره أن آل ابو الزلف، أصحاب صحيفة ‘القدس’ المقدسية العريقة، يحضِّرون لاصدار طبعة دولية من الصحيفة في لندن، كنت أجلس الى طاولة التحرير الطويلة التي تتوسط الطابق الثاني في صحيفة ‘العرب’، عندما سمعت الأستاذ محمد قبرطاي نائب رئيس التحرير وهو يرد على مكالمة الزميل نصر المجالي الذي كان يخبره، كما علمت بعد انتهاء المكالمة، عن عرض تلقاه من آل أبو الزلف لادارة تحرير الطبعة الدولية من صحيفة ‘القدس’. كنت في تلك الأيام التقي عبد الباري على نحو دوري في كافتريا داخل محطة ‘بادنغتون’. كان يأتي بسيارته ‘نيسان مايكرا’ من ‘تشيزك’.
وأنا في قطار ‘ساوث هول’ ونلتقي في تلك الكافيتريا، نتحدث عما يستجد من اخبار. كان عبد الباري وزميله القديم بكر عويضة يخططان، في تلك الفترة، لاصدار مجلة اسبوعية، بعدما ترك الاثنان عملهما. الأول في الشركة السعودية للابحاث والتسويق التي تصدر ‘الشرق الاوسط’ ومجلة ‘المجلة’، والثاني في مجلة ‘التضامن’ التي كان يرأس تحريرها الاستاذ فؤاد مطر.. لكن ذلك المشروع المشترك لم ير النور لأسباب مالية.
ما إن غادر الاستاذ قبرطاي كرسيه في صالة التحرير حتى رفعت التليفون واتصلت بعبد الباري في البيت. لم تكن، في تلك الأيام، قد حلت نقمة ونعمة الموبايلات. كان موجودا في البيت، قلت له اسمع التالي. وأخبرته الحكاية.
لم يمض وقت طويل على تلك المكالمة حتى كنا نخطط، هو وأنا، في نفس الكافتيريا لاصدار الطبعة الأولى من صحيفة ‘القدس’ مهتدين بالشكل الجديد لصحيفة ‘الغارديان’ البريطانية، ونضع التصورات التحريرية ونفكر بالأسماء التي يمكن أن تنضم الينا.
كنا التقينا، عبد الباري وأنا، مع ناشر الصحيفة الأستاذ وليد أبو الزلف في فندق ملاصق لمحطة ‘غلوستر رود’ وعرض علينا ميزانية التحرير. كانت عشرين ألف جنيه استرليني! بتلك العشرين ألف جنيه المخصصة للتحرير، رواتب واستكتابات، بدأت مسيرة الصحيفة التي ستحمل اسم ‘القدس العربي’ في شهر نيسان (ابريل) عام 1989.. وتستمر، رغم كل المراهنات على اغلاقها، حتى يومنا هذا.
لم يكن عبد الباري عطوان وحده في هذه السفينة التي عصفت بها الأمواج (العاتية أحيانا) ولكنه كان ربانها.
سرُّ ‘القدس العربي’، صيغة صحافية واستمرارا زمنيا، يكمن في الانسجام الذي طبع أعضاء هيئة التحرير الأُول وايمانهم بأهمية المشروع الذي جاء في ظل ‘ربيع فلسطيني’. كان هذا هو هدف الجريدة الأول عندما أعطى ياسر عرفات اشارة انطلاقها أواخر عام 1988. ولهذا السبب طلب من الصحافي المصري الكبير الراحل أحمد بهاء الدين أن ‘يشرف’ عليها لفترة من الوقت وأن يرشح كتابا لها، وبالفعل فقد رشح لمكتب ‘القدس العربي’ في القاهرة (المكتب الأول لنا في الخارج والأكبر) الزميل العزيز حسنين كروم الذي لا يزال على رأس عمله حتى اليوم.
لم تكن ‘القدس العربي’ مشروعا تجاريا إذن، فأي مشروع ‘تجاري’ يبدأ بعشرين ألف جنيه استرليني؟ كانت هناك قضية أمامها، ولكن في اطار صحافي مهني هذه المرة وليس في اطار حزبي.
ولا أفشي سرا، هنا، عندما أقول إن عبد الباري قد قاوم، بكل السبل، محاولات أبو عمار لوضع ‘أنفه’ فيها. وأزعم أنها كانت تجربة فارقة حتى بالنسبة لياسر عرفات أن يدعم منبرا إعلاميا من دون أن يتحكم فيه.
يمكن لمن يرغب تعميم تجربة الجريدة مع ياسر عرفات على كل من قدم لها ‘يد’ المساعدة. هذا أشهد لعبد الباري به. وأشهد له أنه كان يقبل الاختلاف ويتعايش معه، ومن راقب الجريدة على مدار السنين الماضية لا بد أنه لاحظ تفارق مواقفنا.
وليس سراً، كذلك، أنني لم أتفق معه حيال قوى معينة في المجتمع العربي وتجاه سياسات بعينها. كان هو يكتب على الصفحة الأولى في اتجاه واكتب أنا على الصفحة الاخيرة في اتجاه آخر من دون أن يكون قد قرأ مقالي أو أكون قد قرأت مقاله.
هذا ينطبق، بالطبع، على سائر كتاب الجريدة.
أخيرا أقول.. أظن أن عبد الباري عطوان لم يستطع أن يتواءم مع المتغيرات العاصفة التي طرأت على العالم العربي. من قبل كان يعرف كيف ومتى ينقّل خطاه في حقول ألغام السياسة العربية.. ولكن الألغام تكاثرت، والخطوط تشابكت ولم يعد ممكنا رؤية العالم بالأبيض والأسود.
أمس الأول قال لنا عبد الباري وداعا.. ولكني أقول له إنه موجود بيننا. هناك نحو ربع قرن من العمل والصداقة لن يذهب هباء.. فالعشرة، كما يقول أهلنا، لا تهون إلا على أولاد الحرام.. ولسنا، على ذمة أمهاتنا الطاهرات، كذلك.
… حينما ترجل فارس الكلمة وفارس المواقف و فارس الرجال ، لم يكن الأمر عاديا… لم يكن الفعل حدثا عابرا ..الأمر كان عنوانا كبيرا لفعل احتجاجي متفرد
..فعل احتجاجي من جنس جديد..يحمل رائحة الشهداء..و يحمل مرارة اليأس و القهر و الفجيعة .. برحيل الرجل تتشكل سمفونية حزينة .. عزف الحانها هذا السقوط الفظيع الممتد من النهر الى المحيط..ورددها هرم عملاق قهرا و اضطرارا.. يأسا و انتحارا..يتماهى الرحيل مع رحيل أحلام كبيرة سكنت الرجل و سكنت كل عربي لكنها تبخرت.. و انتهت الى نتيجة عبثية ..لقد عبر الرجل دائما عن الأنسان في الوطن العربي ..كان اللسان و الإنسان و الهاتف دوما بالحق الذي صاع في دهاليز حكام فشلة ..و حينما سقطت كل تلك الهامات أمامه ..لم يعد الرجل يمتلك الحقيقة التي دأب على ملاحقتها..تلبست بأكثر من لبوس ..و ناورت بأكثر من رأي و استندت على فتاوى أكثر من شيخ..غابت الحقيقة ..لقد استقر لدى الرجل أن الحقيقة الوحيدة التي تأسست الآن هي أن لا حقيقة…هي مملكة الوهم إذن أمام رجل لا يقتات من الوهم…هكذا إذن كان الإحتجاج من جنس الواقع …
..العين تدمع و القلب يخشع وانا لفراقك ياسيدي ـعبد الباري ـ لمحزونون .
جميع الكفاءات العربية في مختلف الفنون هاجرت بلدانها وهو شيئ منطقي