مآدب اللئام

في رحلة من رحلات الشتاء كنتُ في قوافل أبي سفيان المتّجهة إلى اليمن لتبيع بضاعة الشّام، وتجلب من هناك عطورَ الهند وبهاراتهم وأفاويههم. كان أبو سفيان قد اختارني بنفسه وانتدبني كي أكون محاسبا في تجارته، لأنني تعلمت الحساب قبل أن يسترقّني سَدنة زرادشت، وباعني أتباعه في سوق النخاسة في مكّة بأبخس الأثمان.. كانوا يقولون هذا عبدٌ مزدكيّ بارع في الحساب.. كان الناس يمرّون فلا يدفعون شيئا لأنّهم كانوا يلهثون بحثا عن الجواري القادمات من الشّمال.. أو عن سُودٍ غِلاظٍ شِداد للحراسة، أو حمل الأثقال.. كنتُ ضعيف العود لا جميلا ولا قبيحا.. وكانت سيّدات قريش يمررن عليّ وينظرن في عيني وينزلن بعيونهنّ ثمّ يصفقن فيمضي بهنّ قائد ركبهن بعيدا.. حتى جاء أبو سفيان في جمع من الرجال.. توقّف أمامي وسأل بائعيّ: هل يعرف القسمة والطرح أكثر أم الجمع والضرب.. قالوا له اختبره يا سيدي.. اختبرني فتعثرت في الجواب نكاية في من استرقّوني ولكنّ عينا حارة من أحد الهمج الذين نصبوني للبيع جعلتني أخاف أن يكون مصيري أسوأ من البيع في سوق النخاسة، فأجبت ببراعة وإتقان.. أنا لا أعرف ما يكون أسوأ من أن أباعَ في سوق النخاسة، لكنني قدّرت أنّه شيء أسوأ من أن تباع في سوق النخاسة. أجبت فارتاح أبو سفيان لكنّه أظهر الاشمئزاز وهمّ بالانصراف فصاح أحد الهمج يا سيّد مكّة.. سأمنحك هذا العبد بثمن تريده.. فأشار إلى بعض رجاله إشارة رمى لها كيسا صغيرا وأمسك بي وجرّني معه وراء موكب أبي سفيان.
كانت رحلة الشتاء قريبة فانتدبني أبوسفيان في قافلته محاسبا، وأوصاني وصايا عديدة بعد أن امتحنني وأظهر لي شيئا من الودّ وقال لي: كسبي بين يديك فإن فرّطت فيه سوّيت فودي رأسك بجبهتك.. المحاسبة شغل لا يكون إلاّ عند حدوث الصفقة، أي في اليمن لذلك كلّفني أبو سفيان بشغل آخر يتمّم به أجري وهو مراقبة حركة الجِمال والجمّالين طوال الرحلة قال لي: كن عيني.
الزاد قليل هكذا ظل كبير قادة القافلة يوهمنا.. كان ابن عمّ هند بنت عتبة.. كان يحدّثنا عن الصوم ويقول لنا عليكم أن تجوعوا حتى تشتاقوا إلى لذّة ما يؤكل.. كان يقول لنا إنّ أجمل ما في الطّعام هو تخيّله وأطيب الطّيب في فمك لا يكون إلاّ بعد طول مسغبة وشوق إلى الأكل.. كان يقول ذلك ويخرج رطبا محشّوا بشيء دسم ويهرسه تحت ضرسه ويأكل فنتشوّق.. كان يعذبّنا كلامه ويعذبنا فعله.. كان يلقي لنا شيئا من التمر اليابس في المساء حين تهجع القافلة.. كان الجمّالون يتركون الجمال ترعى حرة فتأكل ممّا علق بالأرض، بعد رشح مطر أو ممّا تناسته الريح من شائك النبت فلم تقتلعه.. كنت أراقبها وأسدها.. يجلس الكبار في الليل ويضعون خمرا معتقة، ويخرجون من الميرة ما يبدو لنا لذيذا فنشتهيه أكثر حين نسمعهم يتمطقون به.. وكانوا ينادون الحكّائين فيجودون عليهم بالفُتات، ويحكون لهم سِيرا وأقاصيص عن النساء الجميلات، وحين يكحّل النوم عيون أغلب الجمال والجمالين يحكون أشياء تخجل الليل فينكفئ على نفسه ويزداد سوادا.

الزاد قليل هكذا ظل كبير قادة القافلة يوهمنا.كان ابن عمّ هند بنت عتبة.. كان يحدّثنا عن الصوم ويقول لنا عليكم أن تجوعوا حتى تشتاقوا إلى لذّة ما يؤكل.. كان يقول لنا إنّ أجمل ما في الطّعام هو تخيّله وأطيب الطّيب في فمك لا يكون إلاّ بعد طول مسغبة وشوق إلى الأكل.

قدّرت في تلك الرحلة أنني هالك جوعا، وأنّ صوم النهار لن يتبعه أكل كريم وأنّ قدرتي على الحساب والمراقبة ستضعف وأنّ الحرمان لو اتّصل بي فسيقضي عليّ الجوع أو الخطأ في الحساب.. قرّرت أن أضرب في الأرض ليلا، كما تضرب الجمال بحثا عن فريسة أصطادها.. همست في أذن بعض الجمّالين بأنّه علينا أن نقضي جزءا من الليل في الصّيد علنا نصيب ما به نقمّ الأود ونسدّ الرمق.. تردّد ثمّ تبعني.. قلت له عليك أن تتسمع صوت البوم.. فلعنني ولعن الليل والبوم، وقافلة أبي سفيان.. وقال: عمر نحس من أوّله.. سمعت بومة أمّ قويق وكنت أسمعها في بقية الليالي سماعا واضحا هي بومة صغيرة كنّا نسمّيها أمّ السّهر.. لونها رماديّ يميل إلى البنّي في ريشها بعض التنقيط الأبيض عيونها صفراء.. تتكاثر في آخر شهور الشتاء، ولا سيّما في فبراير/شباط وهو أقصرها.. بومة أمّ قويق هي بومة لا تحمل نحسا إلاّ لمن يجهلها لكنّها تحمل لي الخير.. إذا سمعت صوت أمّ قويق فاعلم أنّ بالجوار ضبّا.. كنت أريد أن أصطاد الضَّبَّ وهو في جُحره… تتغذّى أمّ قويق على الحشرات والجراد، غير أنّها تحبّذ لحم الضبّ فهي تصطاده في جحره ثمّ تتخذ منه عُشّا.. كان الجمّال الذي يرافقني لا يعرف هذه الحكاية فأخبرته بالسرّ وسألته أن يكتم الخبر.. كان طيلة سيره يعيد لي مثلا حفظته: جُحْرُ ضَبّ خربٍ.. تعلّمت العربية لمّا كنت أتعلم الحساب، فكنت أصلح له المثل أقول له جحرُ ضبٍّ خربٌ فيقول: بل خربٍ ويتهمني بالقصور وبأنني لا أعرف العربية فهي أعظم من دماغي.. فأبتسم من أنّ جحر الضبّ لا يصيبه الخراب لأنّه حين يكون فيه يرعاه ويرممه ويسدّ ثغوره ويقضي الليل يجول بين جميع منافذه، ويجرب الهرب من مكان ليدخل من آخر.. حين يصبح الجحر خربا فذلك يعني أنّ البوم سكنته وعشّشت فيه، أو أنّه هجر، وفي الحالتين يكون الضبّ قد صار لقمة قد ساغت لمن صاده.. سيكون الضبّ لقمتي أنا الليلة.. قررت.. ونفذت وساعدتني أمّ قويق على ذلك.. صدت زوجا من الضبّ وأشعل الجمّال النار وشويناهما وشرعنا نأكل كأننا نتعبّد.. لكنّ الليل لا يمكن أن يخفي النّار لذلك جاءنا ربّ القافلة وهو يخال نارنا نارَ قرى.. كان يجلس بعيدا وكنّا نأكل ولا ندعوه.. ظلّ يقترب حتى يأخذ شيئا من شوائنا.. وكان البوم ينعق وكان الشواء يكتوي بنار القرى وزعيم القبيلة ينظر فلا يلقى شيئا منّا.. قال: أهذه مآدب اللّئام؟ أشرت برأسي، أن نعم وأغرق الجمّال في الضحك بعد أن لكزني.
من الغدِ لم يحدّثنا زعيم القافلة عن الشوق للطعام، بل كان يغدق على غير عادته.. كانت الجمال أكثر سعادة وحركة الجمالين أكثر نشاطا.. اقترب منّي وقال لي: إسمع يا محاسبيّ مزدك.. الليلة أخرج معكما.. وافقت… قلت لزعيم القافلة وقد بتّ رفيق طريقه: لمَ تقولون: جحرُ ضبّ خربٍ.. ولا تقولون خربٌ.. ابتسم كأنّه يقول: الخرابُ لا يناسبه الرّفع يناسبه الجرّ .. كنت لا أفقه الرّفع ولا الجرّ بل كانت هذه الألفاظ مخبوءة في ذهن قوم سيأتون بعد قرون يسمون النّحاة، وسيأتون بمفتاح السرّ لقولهم (خربٍ) يسمى الإتباع.. هكذا ألهمتني نجمة بارقة في الجنوب.
في الليل خرج معنا زعيم القوافل واتجهنا جنوبا نتسمّع صوت أمّ قويق فلم نعثر لها على حسّ.. ظللنا نضرب في الأرض عن جحور الضِّبَابِ كانت جميعها خرابا.. قال لنا طارقٌ في طريقه إلى الحيرة.. إنّ بوم القويق هاجر إلى الشمال بعد أنْ كشفنا سره.. في تلك الليلة رجعت مآدب اللئام ورجع الحرمان من الطعام وطالت رحلة الشتاء.

٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد علي:

    رائع جدا شكرا لك

إشترك في قائمتنا البريدية