قبل الضربة الإيرانية على إسرائيل، صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن إسرائيل بصدد إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط من جديد، وقدم صورتين متقابلتين، تعكسان في الجوهر الرؤية الإسرائيلية لمستقبل المنطقة. لقد خاطب بشكل مباشر حكام دول الشرق الأوسط، بلهجة تهديد واضحة، تحمل تقريبا نفس عبارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، حين قسم العالم إلى «من معنا، ومن ضدنا» دون أن يترك أي فرصة لمن يختار أن يكون في دائرة أخرى ثالثة.
في الواضح أن نشوة «الانتصار التكتيكي» على حزب الله باغتيال أمينه العام وبعض قيادته، فضلا عن حادثة تفجير أجهزة اللاسلكي، هي التي دفعت نتنياهو للاستعجال في الكشف عن تصور إسرائيل لمستقبل المنطقة ودورها فيه، لكن، في الواقع، لم تكن الرسالة أكثر من محاولة لرفع أسهمه داخل إسرائيل، بعد أن عانى كثيرا من اهتزاز الجبهة الداخلية عقب فشله في تحقيق أهدافه في غزة، وأيضا لإقناع العالم بمظلومية إسرائيل وشرعية هجماتها العسكرية والأمنية والاستخباراتية.
قبل الضربة الإيرانية، توزع شكل الدعم الأمريكي لإسرائيل بين الجانب العسكري (الدعم بالسلاح) والجانب الاستخباراتي (تقديم معلومات استخباراتية) والجانب السياسي والدبلوماسي من خلال الدفع بمبادرات لوقف إطلاق النار وممارسة قدر من الضغط الدبلوماسي، سواء على قطر ومصر للقيام بدور مضاعف لإقناع حماس بتقديم تنازلات مرة، أو على الدولة اللبنانية لإقناع حزب الله بوقف إطلاق النار بشكل مؤقت لثلاثة أسابيع، لفصل مسار فلسطين وجنوب لبنان ولو بشكل مؤقت، أو على إيران وذلك بإقناعها بعدم جدوى الرد العسكري، ما دامت على الطاولة مبادرة ستنتهي الحرب بشكل كامل مع تعهد أمريكي بذلك.
في المحصلة، استعملت واشنطن ورقتين أخريين للتغطية على أعمال إسرائيل العدائية، ورقة وقف إطلاق النار، وورقة تقليص حجم التوتر في المنطقة لتجنب الحرب الإقليمية، ونجحت إلى أبعد الحدود في ذلك، ويمكن القول بأن هذا الدور هو الذي سمح لرئيس الوزراء الإسرائيلي، أن ينتشي بخطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويفتح شهيته للحديث عن شرق أوسط جديد مركزه إسرائيل، ولا توجد فيه محاور إيران وأذرعها المقاومة.
المشكلة التي وقعت فيها واشنطن، أو بالأحرى، تورطت فيها بفعل التهور الإسرائيلي، أنها أنهت مفعول البطارية التي كانت تمدها بالطاقة في كل مبادراتها، أو بالأحرى في ورقتيها في التغطية على إسرائيل ودعمها، فخرجت إيران أمام العالم تقول بأن واشنطن قدمت عبر وساطة سويسرية وعودا كاذبة بوقف الحرب على غزة ومن ثمة لبنان، وذلك حتى تمنع الضربة الإيرانية التي توعد بها القادة الإيرانيون إسرائيل بعد أن اغتالت إسماعيل هنية في طهران في لحظة رمزية ( تنصيب الرئيس الجديد لإيران) كما خرج وزير الخارجية اللبناني، يؤكد بأن الأمين العام لحزب الله قبل مقترح وقف إطلاق النار المؤقت، وأن اغتياله جاء عقب هذا الموقف، بما يعني ضمنا أن واشنطن كانت بيدها كل المفاتيح لوقف الحرب على الأقل في الحدود اللبنانية والفلسطينية المحتلة، ومع ذلك، قدمت التغطية لإسرائيل لتقوم بهجماتها العدوانية، وأقدمت على عملية اغتيال الأمين العام لحزب الله، واطلقت الرصاصة على أي أمل في إنهاء التصعيد.
لم يعد أمام واشنطن إلا التوقف عن لعبة المبادرات والمقترحات الفارغة، والتوجه بجدية ومصداقية إلى المفتاح الحقيقي لوقف الحرب الإقليمية، أي إيقاف الحرب على قطاع غزة
الكثيرون يتساءلون عن اتجاهات الموقف الأمريكي، وأي الأوراق يمكن أن تلعب بها واشنطن، وهل تسعف المصداقية المفقودة في أن تعيد الكرة مرة أخرى بالادعاء بأن كل جهدها ينصرف إلى وقف الحرب وخفض التوتر والحيلولة دون وقوع حرب إقليمية.
يمكن أن نلاحظ تعدد التصريحات الأمريكية وتواترها، سواء في تقييم الهجمات الإيرانية على إسرائيل، أو في استشراف الرد الإسرائيلي عليها، وقد وقع تواطؤ بين مختلف المسؤولين السياسيين والعسكريين والدبلوماسيين الأمريكيين أن الضربة الإيرانية لم تكن فعالة، سوى ما كان من جملة مضافة وردت في تصريح الرئيس الأمريكي يذكر فيها بأن التقييم النهائي يتوقف على نتائج الضربة، ويمكن أن نلاحظ في المقابل، تصريحات كثيرة تتحدث عن رد إسرائيلي، بعضها انصرف إلى التوقيت، وبعضها اهتم بأهداف الضربة، فيما البعض الآخر تحدث عن حجمها، وهل ستكون واسعة أم محددة دقيقة؟
الإيرانيون وجهوا رسالة واضحة لواشنطن، بضرورة التعامل من غير ازدواجية، فالزمن السياسي الذي أعقب الضربة الإيرانية، يفترض على واشنطن إن كان جادة في الحيلولة دون اندلاع حرب إقليمية أن تمارس ضغطا مثيلا للذي مارسته على إيران، لإجبار إسرائيل على ما يسمى بالصبر الاستراتيجي.
المعضلة التي تقع فيها واشنطن اليوم، أنها لا تستطيع أن تشجع إسرائيل للمضي في توجيه ضربة قوية لإيران، تدفع طهران لرد أقوى من السابق، لأن ذلك يعني بكل وضوح أن واشنطن تخالف رؤيتها الاستراتيجية في تجنب حرب إقليمية، وهي في الآن ذاته، لا تستطيع أن تمنع إسرائيل من الرد، لسببين اثنين، أولهما أن تل أبيب تتصرف من اعتبار منظومتها للأمن القومي لا من خلال توجيهات أمريكا، والثاني، أن عدم الرد يعني التسليم بنجاح الأطروحة الجديدة للردع الاستراتيجي التي انتهجتها إيران، وأنه ابتداء من هذه الضربة، ستشعر طهران أن عقيدتها الجديدة لـ«التوجه إلى الحرب لمنع الحرب» أتت أكلها، وأنه لم يعد هناك مكان بالمطلق لاستعادة أطروحة الصبر الاستراتيجي.
الخيار الذي تشتغل عليه واشنطن اليوم، هو العمل على واجهتين اثنتين، إقناع إسرائيل بتخفيض حجم الضربة ونوعيتها بالشكل الذي يساعد على العمل في الواجهة الثانية، أي الضغط مرة أخرى على غيران بتشغيل واسطة عربية لإقناع طهران بأن إسرائيل تريد فقط استعادة ماء الوجه، وأن ردها لا يمكن اعتباره بأي حال من الأحوال انتقاما من الرد الإيراني.
المشكلة أن هذه الدينامية ذات الواجهتين، تجد أمامها إكراهات كثيرة، أولها أن إسرائيل تلقت ضربات جد موجعة من حزب الله عقب الضربة الإيرانية، بما يعني أن حزب الله لم يكتف فقط بمسح «عار» الضربات القاسية التي تلقاها، وإنما استعاد التوازن الاستراتيجي في المنطقة، ورفع معنوياته بشكل كبير على النحو الذي صار يتحدث فيه عن «حتمية النصر» على الكيان الإسرائيلي، والثاني، أن إسرائيل شعرت بالإهانة من ضربات إيران لها، والثالث أن إيران استبقت الموقف، وتحدثت بكل مستوياتها العسكرية والسياسية والدبلوماسية عن رد أقوى من السابق لو استهدفت من جديد من طرف العدو الإسرائيلي. والمثير في الأمر أن طهران اختارت أن تصرف الموقف مرة ثانية من الدوحة، العاصمة المرجحة للقيام بالوساطة بين واشنطن وطهران لتجنب حرب إقليمية، والرابع، أن إسرائيل لن تستجيب للضغط الأمريكي وستحتج لديها بـ«حقها في الدفاع عن نفسها». والخامس، أن أمريكا لا تملك في يدها أي ورقة تفاوضية، تساعدها على استعادة لعبتها القديمة.
في الواقع، لم يعد أمام واشنطن إلا التوقف عن لعبة المبادرات والمقترحات الفارغة، والتوجه بجدية ومصداقية إلى المفتاح الحقيقي لوقف الحرب الإقليمية، أي إيقاف الحرب على قطاع غزة، وانسحاب الجيش الإسرائيلي منه، ودعم عملية الإعمار فيه، والضغط على إسرائيل وحدها، لقبول «حل الدولتين».
كاتب وباحث مغربي