قال الجاحظ في رسائله: «إذا أسنّ القرشي رحل إلى الحجاز، وما فكر فيلسوف قط إلا رأى الغربة أجمع لهمه وأجود لخواطره». وقال في موضع آخر: «قسّم الله تعالى المصالح بين المقام والظّعن، وبين الغربة وإلف الوطن، وبين ما هو أربح وأرفع، حين جعل مجاري الأرزاق مع الحركة والطّلب، وأكثر ذلك ما كان مع طول الاغتراب».
ولئن رأى البلغاء والفصحاء الاغتراب جمعًا للهم وصفاءً للفكر، وسعةً في الرزق، إلا أن الخبر ليس كالمعاينة، وليس الحديث عن فوائد الاغتراب كمعايشة آلامه ومشاقّه، فما من شيء أشد على نفس الإنسان من مفارقة الأوطان، ولقد حملت إلينا الآثار ذلك الوداع النبوي لمكة مسقط الرأس ومهد البدايات: (ما أطيبَكِ من بلَدٍ وأحبَّكِ إلَيَّ، ولولا أنَّ قومِي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرَكِ).
التشريد والنفي خارج الأوطان أنكى من أي عقاب، وقديما هدد أنبياء الله إما بالتخلي عن الرسالة أو التخلي عن الأرض
وعن هذا الحب الفطري للتراب قيل لأعرابيّ: أتشتاق إلى وطنك؟ قال: كيف لا أشتاق إلى رملةٍ كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها؟ ولذا لا غبار على تسمية الغربة بالكربة، وابن عبد ربه صاحب «العقد الفريد» يفيدنا بأن الغراب الذي تشاءمت منه العرب قد اشتق اسمه من الغربة، بينما يرى الصفدي وغيره أنهم اشتقوا منه الغربة والاغتراب، وفي الرأيين إقرار بنبذ الغربة عن الأوطان، خاصة إذا استتبعها فراق للأهل والخلّان والأولاد، فعندئذ تفحش آثار الغربة وتنال من روح المغترب، ولا نجد في عدول بدر شاكر السياب عن الهجرة إلى لبنان والبحث عن عمل، إلا انزعاجا من الغربة ووحشتها وحيلولتها دون تطويق فلذات الأكباد بجناحي العناية والكلاءة، فاستقر في بلده، رغم حصوله على راتب أقل، والسبب كما صرح هو في رسائله إلى أدونيس: «أن يترك الإنسان عملا ويمضي إلى بلد آخر ليبحث عن عمل فذلك ما تمنعني أبوتي ومسؤوليتي تجاه طفلي من القيام به». ما أكثر النائين عن الديار اضطرارا، يفرون من قتل مباشر إلى انتقاص الروح من أطرافها، ومن سجونٍ قضبانها الحديد إلى سجونٍ قضبانها الوحشة. ما أشد صرخة الوليد في المنفى، تولد معاناته، فبعد عقد من الزمن سوف يكون بلا وطن، فلا هو موصول بأرض المولد، ولا هو مُغرم بأرض الجذور. ربما تحوّل الرياح ترابَ أرض إلى أرض، لكنها لا تحمل معها رسائل المعذبين في أرض المنفى، يحسبهم الجاهل من أهل النعيم والسلامة، لكن الشاعر له رأي آخر:
إن الغريب ولو يكون ببلدة … يُجبى إليه خراجها لغريبُ
وأقل ما يلقى الغريب من الأذى … أن يستذل وأن يقال كذوب
وآخر يدرك حقيقة الاغتراب فيرثي أهله:
إن الغريب إذا ينادي موجعاً … عند الشدائد كان غير مجاب
فإذا نظرت إلى الغريب فكن له … مترحماً لتباعد الأحباب
حقيقة يدركها المستبدون: أن التشريد والنفي خارج الأوطان أنكى من أي عقاب، وقديما أطلق أسلافهم لأنبياء الله التهديد، إما التخلي عن الرسالة أو التخلي عن الأرض «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا». واليوم يسلك المستبدون المسلك ذاته، إما أن تُسبّحَ بحمدهم وتُطربَ أسماعهم بتراتيل النفاق، وإما أن ترحل في جنح الظلام، حتى لا تحجز لك مكانا وراء الشمس. كان لهم وطن، تثقل فيه أقدامهم عن التفكير في الاغتراب، وكم من مرة استجابوا فيها لنصيحة الجد الأشيب، في المقام على أرض الآباء ومسقط الرؤوس وأرض الذكريات، يُبغّض إليهم ترك الأوطان، وكأنك بعبد الله بن جعفر إذ كان ينهى معلم أولاده عن رواية أشعار عروة بن الورد، الذي كان كثير الاغتراب والارتكاض، ويعلل ذلك بقوله: «هي تدعوهم إلى الاغتراب عن أوطانهم». لكنهم بين العشية وضحاها، أصبحوا غرباء، في انقطاع عن الوطن الأم، في انقطاع عن العائلة، في انقطاع حتى عن الأرض الجديدة، غربة في ألف غربة، نصيبهم مكابدة الواقع غير المألوف نهارا، ودمعة على وهج سراج الذكريات ليلا، والخوف كل الخوف على أهل وأبناء وأمٍّ قد احدودب ظهرها، تفصله عنهم المسافات، ويُساوم بهم حتى لا ينطق بكلمة حق من خارج الحدود، وما من قاموس أخلاقي هنالك يحتوي على مفردات النبل والمروءة والعدل وصون نساء الخصوم، ولم ترق أخلاق القوم إلى خلق العربي في جاهليته، الذي لقي إحدى المهاجرات المسلمات في وسط الصحراء القاحلة، فسيّر بعيرها وهي عدوته إلى حيث مأمنها.
أرض الغربة مجمع المعذبين في الأرض، الفارين بعقائدهم وأفكارهم ومبادئهم من القتل أو السجن، أو الفارين بإبداعاتهم التي كفر بها أقوامهم، أو الهاربين من تجويع ممنهج مارسه عليهم أهل الاستبداد سارقو خيرات الشعوب، تجمعهم آمال بالعودة إلى الديار، إلى التراب، إلى الجذور والأهل. وتجمعهم مخاوف النهاية، شبح الموت في الاغتراب، كلهم يخاف أن يموت منفيا، ويُفجع أهله في الموطن الأول، بخبرٍ يأتيهم عبر اتصال هاتفي، وإن حالفهم الحظ يتسلمون جثمانه في صندوق ويوارونه ثراهم، وإلا استكمل جثمانه رحلة الغربة، ورقد منزويا في بقعة نائية، يمر عليه الناس ويطالعون اسم ذلك الغريب المجهول. تبا لتلك الأنظمة المستبدة التي صنعت تلك المعاناة، بعد أن حولت البلاد إلى سجون عامة أودعتها أهلها المستحقين لكل خير فيها، واستدعت كل وسائل القمع التاريخية لاستعباد الجماهير، التي لم تجد بدًا من الاغتراب، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
٭ كاتبة أردنية
انا في المنفى منذ ثلث قرن
بعد ثلاثة عقود بالنرويج فقدت الإحساس بالغربة!
النرويج أصبحت وطني!! ولا حول ولا قوة الا بالله
انت كاتبة جيدة بل افضل كاتبة في عصرنا الحالي و ساظل اعيدها مهما انمحت ربنا يحفظك و يثبتك
لقد ضربتي علي وتر أصاب القلب والوجدان يا إحسان .. لو تعلمين أن أشد الغربة في هذا الزمان صار في حضن الأوطان .. قضينا السنين في الغربة فلما عدنا إزدادت علينا مشقة الغربة فما بقيت أوطاننا أوطان بل صارت بقايا أوطان .. فما الحياة إلا غربه في غربات
فكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل
لله در صاحبة المقال. لقد وضعت اصبعها على موطن الداء و كأن بها تحيا في سجن الغربة. لأن الأحاسيس و الدقة التي تنبعث من المقال تنم عن معاناة … و الله المستعان.
و إن كنت وقعت في سجن الغربة لأسباب غير امنية كما هو حال كثيرا من إخواني المضطهدين و المبعدين من طرف حكام الأنا و عباد الذات إلا أنني أتجرع لأواء الغربة و الوحدة و الوحشة و أشعر بأنني شبيه بمن صُلِبَ … و الله المستعان.
شكرا جزيلا لصاحبة المقال الفاضلة حتى و إن كان مقالها حرك أشجانا و أثار عواطفا… و الله المستعان.
ماشاءالله عليك أستاذة، أحسنتِ المقال،حفظنا الله جميعا من الاغتراب وبارك فيكِ
للأسف تحولت بلاد الغربة الى نعيم للأيتام والثكالى بسبب الطغاة في بلاد العرب ممن حول تلك الدول الهانئة السعيدة الى جحيم مقيم .
مقالة رائعة وفي وقتها .
سلمت يمينكِ يا أستاذتنا الفاضلة المُبدعة دوماً إحسان الفقيه … الغُربةُ هى أمر شاق على النفس كما تفضلتِ بإسهاب يا أستاذة إحسان … ولكن إذا تكاثرت غيوم الظلم والبغى والطغيان, وحولت حياة الناس إلى جحيم لا يطاق, كما يحدث فى جُل دويلات أمتنا الممزقة المنكوبة, كانت الهجرة إلى خارج الأوطان أمراً نبوياً لا لبس فيه, كما حدث فى هجرتى الحبشة, وكما هاجر الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وصحابته الكرام رضوان الله عليهم إلى المدينة المنورة
.
ثم ماذا نقول فى هذه الآية الكريمة شديدة الوضوح:
“إِنَّ الَّذِين تَوفّاهُم الْمَلآئِكةُ ظَالِمي أَنْفُسهم قَالُوا فِيم كُنتُم قَالُوا كُنّا مُستَضعَفِنَ في الأَرْضِ قَالوا أَلَم تَكن أَرض اللّه واسعَةً فتُهَاجِروا فِيها فَأُوْلَـئِك مَأْوَاهُم جَهَنَّمُ وَسَاءت مَصِيرًا”, صدق الله العظيم
.
وأخيراً, كما أن خروج أى شيئ من السبيلين من موجبات الوضوء, فإن سماع صوت السيسى القميئ, ورؤية وجهه الكئيب, من موجبات الهجرة الحاسمة من بلدى الظالمة الجائرة مصر!! … ونصيحتى إلى من يُفكر فى الهجرة, أن يشد الرحال إلى بلادٍ يحكمها من لا يُظلم عندهم أحد, وفى عالمنا المضطرب الآن, لا أرى ذلك مُتحققاً إلا فى بلادٍ قليلة, على رأسها كندا ونيوزيلندا وقطر وتركيا
تتمة رجاءً:
نعم ترك الوطن مؤلم جداً ففي الوطن مرابع اللهو وموطن الأحبة ومهوى الذكريات التي تبقى معنا إلى الأبد وقد عبر شعراء المهجر عن هذا خير تعبير، فالشاعر الحمصي نسيب عريضة يتمنى لو يعود في كفن إلى بلده حمص، المهم أن يعود يوماً حيث يقول:
يا دهر قد طال البُعاد عن الوطن
ولا عودة ترجى، وقد فات الضعن
عد بي إلى حمص ولو حشو الكفن
واهتف أتيت بعاثر مردود
واجعل ضريحي من حجار سود
وهذا الشاعر السوري إلياس فرحات يستفيق من حلمه بعد وصوله إلى المهجر ويتلوى من ألم الفراق فيقول:
نازح أقعده وجد مقيم
في الحشا بين جمود واتقاد
كلما افترّ له البدر الوسيم
عضه الشوق بأنياب حداد
يذكر العهد القديم
فينادي
أين جنات النعيم من بلادي
صدقت والله فالغربة من أشد أنواع العذاب النفسي ولو أن الزمان يعود إلى الوراء لكان لسير الأحداث منحى آخر فالعمر يمضي سريعآ ولانعرف هل سيكتب لنا العودة أم ستكون هذة الأرض مثوانا الأخير