أي أقدار هذه التي تجمع، في يوم 11/9، محاق (إقالة أو استقالة) مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتن، والذكرى الـ18 لهزّة الإرهاب الكبرى التي شهدت انهيار البرجين في نيويورك وتهديد مبنى البنتاغون؟ وهل يصحّ، تاريخياً وأخلاقياً، نسيان النهار الأقدم النوعي، أي الانقلاب الذي دبرته المخابرات المركزية الأمريكية ضد سلفادور ألليندي، الرئيس التشيلي المنتخَب ديمقراطياً، يوم 11/9/1973؛ حيث كان أساتذة بولتن، وقدوة فكره وسلوكه، في سدّة البيت الأبيض؟ وإذا توجّب لهذه الحلقات أن تتباعد زمنياً، فكيف لها أن تتناقض، أو لا تتكامل، في صناعة مشهد أمريكي قديم/ مقيم في آن، تتلاقى حلقاته وتتطابق رغم انصرام العقود وتبدّل الشخوص وتعاقب الإدارات؟ والذي فرّق بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومستشاره للأمن القومي، هل كان حقاً يفرّق خطّ هذا عن ذاك، أم يصنع أمثولة جديدة عن عملة واحدة لا مناص من أن يكون لها وجهان؟
وللمرء أن يبدأ من التاريخ الأوّل، عام 1970، حين انتُخب سلفادور ألليندي رئيساً لتشيلي، فاختار البيت الأبيض اختزال الحدث إلى الوصمة التالية، الواحدة الوحيدة: هذا أوّل رئيس ماركسي يُنتخب ديمقراطياً في «العالم الحرّ»، وفي أطرافه أيضاً؛ ولذلك فإنّ وصوله إلى سدّة الحكم يعبّد الطريق أمام الشيوعية والدكتاتورية وتخريب الاقتصاد وترحيل الرساميل. الإدارة تجاهلت تماماً، عن سابق قصد وتصميم بالطبع، أنّ حكومة ألليندي كانت ائتلافاً شعبياً عريضاً يجمع الاشتراكيين والشيوعيين والراديكاليين و… المسيحيين الديمقراطيين! كذلك أهملت، أو عمدت إلى تشويه، الحقائق الساطعة التي كانت تقول إن تشيلي باتت الديمقراطية الأكثر استقراراً في عموم أمريكا اللاتينية؛ إذْ أنجزت انتخابات رئاسية، وانتخابات برلمانية بمجلسَيْن، وأتاحت ازدهار صحافة حرّة وحيوية. الاقتصاد أخذ يتقدّم باضطراد مذهل، وإجراءات الإصلاح الزراعي وإعادة توزيع الحيازات الزراعية كانت تصنع أنموذجاً باهراً يصعب على الجارات ألا تحتذي به، وجميع أطفال تشيلي باتوا قادرين على شرب نصف لتر من الحليب يومياً… للمرّة الأولى في تاريخ البلاد.
وهكذا تحتم توجيه ضربة قاصمة إلى التجرية الوليدة، فشهد يوم 11/9، سنة 1973، انقضاض الطغمة العسكرية التشيلية عبر انقلاب قاده الجنرال أوغستو بينوشيه، وحظي بدعم مباشر وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، بموافقة من الرئيس ريشارد نكسون وتنظير جيو ـ سياسي وفلسفي من أحد أشهر وزراء خارجية الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية: هنري كيسنجر. بينوشيه لم يتأخر في حلّ البرلمان، وأنشأ جهاز أمن سرّياً سارع إلى شنّ حملات اعتقال واسعة النطاق، وعيّن حكّاماً عسكريين لإدارة الجامعات، وحظر الأحزاب السياسية والنقابات العمالية. كيسنجر، من جانبه، أعلن أنّ الولايات المتحدة، في موقفها من انقلاب بينوشيه، «كانت مخيّرة بين الديمقراطية والاقتصاد، وكان طبيعياً أن تنحاز إلى الاقتصاد». وفي خريف 1998، حين سيطلب القاضي الإسباني بالتازار غارثون أن تلقي السلطات البريطانية القبض على بينوشيه خلال إقامة استشفاء في لندن (تنعّم، قبلها، بزيارة مجاملة من مارغريت ثاتشر!)؛ كان بولتن أوّل محامٍ يتصدى للدفاع عن دكتاتور تشيلي، معتبراً أنّ الأخير لم يقدْ انقلاباً، بل اختاره الشعب بإرادة حرّة!
محاق بولتن كان يتناسب طرداً مع هيمنة ثلاثة «أدمغة» في البيت الأبيض: ترامب الرئيس، إيفانكا ابنته، جاريد كوشنر صهره؛ وأمّا التاريخ، من جانبه، فقد كان يحفظ للمحاق إياه ذلك التلازم الآبد بين المأساة والملهاة!
11/9 التالي هو تلك الساعة حين انهار البرجان الإعجازيان في نيويورك، وكاد مبنى البنتاغون الأسطوري أن يُدكّ، تحت ضربات إرهاب غير مسبوق؛ ردّ الوجدان الجمعي الأمريكي إلى فاجعة بيل هاربور، فاهتزّ اليقين (البديهي، شبه المطلق، شبه المقدّس…) بأنّ أمريكا حصينة منيعة خلف أسوار المحيط الأطلسي. اليوم أيضاً، وفي الذكرى الـ18، لا يلوح أنّ الرأي العام الأمريكي متفق على أيّ محتوى آخر، سوى ذلك المأساوي الفاجع، حول جملة الحقائق/ الأسرار التي تكتنف الواقعة الكبرى. أتباع نظرية المؤامرة (أنّ جهات في الإدارة الأمريكية أو الاستخبارات الإسرائيلية هي التي خططت ونفّذت، وليس القاعدة) لم يتعبوا من نبش المزيد من «البراهين القاطعة» على صحّة الفرضية. وهؤلاء، للإيضاح المفيد، ليسوا من أبناء الشرق الأوسط والعالم المسلم، كما تقول الصورة التنميطية الشائعة؛ إذْ أنّ العكس هو الصحيح: غالبيتهم العظمى في الولايات المتحدة ذاتها، واستطلاعات الرأي تبيّن أنّ واحداً من كلّ ثلاثة أمريكيين يؤمن بضلوع السلطات الأمريكية، على نحو او آخر، في ما جرى يوم 11/9.
وثمة، على الضفة المقابلة، حركة أخرى أكثر رصانة وأوسع انتشاراً تطلق على نفسها اسم «حقيقة 11/9»، وينضوي في صفوفها مئات من المثقفين والكتّاب والعلماء والناشطين؛ تهدف إلى دحض الرواية الرسمية ليس تطويراً لنظرية المؤامرة، بل تأسيساً لنظرية عالية المصداقية حول لجوء السلطات الأمريكية إلى طمس عشرات الحقائق الدامغة، عن سابق عمد وتصميم وتفادياً للحساب والمسؤولية، من جانب أوّل؛ وكذلك تمكين إدارات البيت الأبيض المتعاقبة من استغلال الحدث لتمرير أجندات أمنية وعسكرية وسياسية مغامرة هنا وهناك، من جانب ثانٍ. ولعلّ بين أفضل المؤلفات في هذا الصدد كتاب لافت وبالغ الأهمية، بعنوان «11/9 والإمبراطورية الأمريكية: المثقفون يعترضون»، أشرف على تحريره دافيد راي غريفث وبيتر ديل سكوت، شاركت فيه نخبة من ألمع الأسماء في مختلف ميادين العلوم السياسية والاجتماعية والنفسية.
هنا، أيضاً، أعاد بولتن التشديد على فلسفته الخاصة حول محاربة «إرهاب إسلامي» صرف، مستذكراً 11/9 وكيف أنّ الإدارة تحتاج إلى القيام بالمزيد؛ قبل أن يقطع ترامب الطريق على تغريدات مستشاره للأمن القومي، فيغرّد من جانبه بأنّ البيت الأبيض لم يعد بحاجة إلى خدماته. ولقد سال حبر كثير في تأويل محاق بولتن، معظمه يستعيد السردية الرائجة، حول خلاف في الرأي بين ترامب وبولتن بصدد ملفات كوريا الشمالية وإيران وفنزويلا وأفغانستان؛ الأمر الذي يثير مزيجاً من العجب والسخرية، بالنظر إلى تصريح ترامب المبكّر ساعة تسمية بولتن في موقعه: إنه صقر، ولكني قادر على ضبط جموحه! ثمة، خارج الإجماع على السردية هذه، رأي طريف من دافيد روثكوف، جدير بالتوقف عنده لأنه يصدر عن صقر آخر من منظّري «القرن الأمريكي الجديد»، وأحد أبرز مفكّري فرض الجبروت الأمريكي على العالم، عبر «هندسة» متعددة النطاقات لا تقتصر على العمل العسكري وحده.
روثكوف كتب مقالة في موقع Daily Beast قرأ فيها محاق بولتن على أسس عملية وفعلية، في رأسها أنّ ترامب يتفاخر بأنه لا يحتاج إلى نصح من أحد، وهذا يفسّر الإطاحة بثلاثة من مستشاريه للأمن القومي، وتعيين الرابع سوف يعني أنه ضرب الرقم القياسي في عدد مستشاري أي رئيس في ولاية أولى، منذ استحداث المنصب سنة 1947. فارق آخر هو أنّ ترامب يحبّ الكلام المتشدد ولكنه نادراً ما يقرنه بالفعل المتشدد، على نقيض بولتن الذي لا يتشدد فقط بل يلحّ على تسليح اللفظ بالقبضة. ولقد جرى مراراً استبعاد بولتن من لقاءات بالغة الحساسية، تخصّ الأمن القومي والسياسة الخارجية. وما دام وزير الخارجية مايك بومبيو حاضراً، في صيغة صوت سيّده، والآمر المطيع دائماً، فما الحاجة إلى صقر لا يكتفي بالاعتراض والاختلاف فقط، بل يتفاخر بهذا من مواقع إيديولوجية يبغضها ترامب كلّ البغض.
الارجح أنّ محاق بولتن كان يتناسب طرداً مع هيمنة ثلاثة «أدمغة» في البيت الأبيض: ترامب الرئيس، إيفانكا ابنته، جاريد كوشنر صهره؛ وأمّا التاريخ، من جانبه، فقد كان يحفظ للمحاق إياه ذلك التلازم الآبد بين المأساة والملهاة!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
/كذلك [أمريكا] أهملت، أو عمدت إلى تشويه، الحقائق الساطعة التي كانت تقول إن تشيلي باتت الديمقراطية الأكثر استقراراً في عموم أمريكا اللاتينية/..
هذا هو الازدواج المَرَضي السريري بعينه الذي يطغى على الرؤية الأمريكية في سياستها /أو سياساتها/ الخارجية.. فمن جهة، الإدارة الأمريكية لا تتردد أي تردد ولا تتراخى أي تراخٍ في بذل كل ما بوسعها دعما لإسرائيل بالمال والسلاح بحجة بناء “الديمقراطية” الوحيدة وسط دكتاتوريات الشرق الأوسط.. ومن جهة أخرى، هذه الإدارة لا تردد ولا تتراخى بالمثل في بذل كل ما بوسعها كذلك عملا على تقويض أي نظام ديمقراطي كمثل تشيلي وسط “دكتاتوريات” أمريكا الجنوبية.. !!
على فكرة، أهم الأحداث التاريخية التي حدثت في يوم ١١ أيلول منذ العام ١٩٧٣..
عام ١٩٧٧، مغني “الراب” الأمريكي لوداكريس أسس Disturbing tha Peace ..
عام ١٩٩٨، افتتاح ألعاب الـ”كومون ويلث” السادسة عشرة في كوالالمبور لأول مرة في دولة آسيوية..
عام ٢٠٠١، الهجوم التاريخي المعروف على أمريكا /على أهم قوتين أمريكيتين: اقتصادية وعسكرية/..
عام ٢٠٠٧، اختبار روسيا من لدنها لأقوى وأخطر قنبلة لانووية في العالم، بحيث اعتبرتها “أم القنابل”..
عام ٢٠١٢، الهجوم المعروف على كافة المقرات الدبلوماسية الأمريكية في مدينة بنغازي الليبية.. !!
يشكر الأخ صبحي حديدي على مقاله القيم، وتشكر الأخت آصال أبسال على ملاحظاتها القيمة أيضا…
وبالمناسبة، على الصعيد الأدبي في يوم 11 أيلول سنة 1912… أول مأساة كارثية حصلت لأهم كاتب باللغة الإنكليزية، جيمس جويس، ألا وهي منع صدور أول كتاب نثري له، «دبلنيون/دبلنيات» Dubliners، من قبل الحكومة الإيرلندية وبالتواطؤ مع الكنيسة الكاثوليكية آنئذٍ… حتى بعد أن تمت عمليات تنضيد وطباعة وإرسال 1000 نسخة إلى الناشر المعني ليتم توزيعها على المكتبات كدفعة أولى… وعلى أثر هذه المأساة الكارثية بالنسبة لكاتب بدأ يشق طريقه في عالم الأدب، قرر جيمس جويس قراره الحاسم والأخير بأن يغادر إيرلندا إلى غير رجعة… وذلك بعد أن لاحقته السلطات مرارا وتكرارا وبتحريض من الكنيسة، وإلى حد تعرضه للقتل بالرصاص الحي الذي نجا منه بأعجوبة حين كان يتنقل في الخفاء من مكان لآخر… كل ذلك بسبب التهمة الوضيعة التي وُجِّهت إليه بأنه «كاتب خطير يسعى إلى إفساد عقول الأجيال الناشئة»… !!!
انظرو الآن إلى المفارقة التي تدعو إلى السخرية كيف أن الحكومة الإيرلندية، في «يوم بلوم» من كل عام، تدر الأموال الطائلة من وراء هذا الكاتب بالذات… !!!
*انظرو…
ألف التفرقة سقطت سهوا من (انظروا)… !!!
يكاد قول كارل ماركس ينطبق على كل شيء هنا، حتى على مستوى الأفراد ؛ التاريخ يعيد نفسه مرتين : مرة كمأساة ومرة كمهزلة ١١؟؟
شكرا لصبحي حديدي وشكرا لآصال أبسال وثائر المقدسي على مساهماتهم !!