مائة عام من المتوازيات

أحصى المؤرخ الأمريكي جون لانغدون، عام 1991، ما لا يقل عن 25 ألف كتاب ومقال عن الحرب العالمية الأولى. هذا بالإنكليزية فحسب. إذ إن ‘منطق الحرب’ قد بدأ منذ أن أخذ قادة الأمم الأوروبية أوائل القرن العشرين في نسج سرديات تدعي الهيام بالسلام وتتهم الخصوم بأنهم يبيّتون العدوان. أي أن الجدل حول أسباب الحرب أقدم من الحرب ذاتها! على أن الجدير بالانتباه أن معظم الإصدارات الجديدة بمناسبة مائوية الحرب العالمية الأولى تكاد تجمع على كثرة المتوازيات بين الوضع الدولي السابق للحرب وبين الوضع الدولي السائد الآن.
إذ يرى المؤرخ كرستوفر كلارك أن زوال الاستقرار الذي كان يؤمّنه نظام الثنائية القطبية أثناء الحرب الباردة قد أطلق علاقات جديدة بين قوى شتى لا يمكن التنبؤ بمسلكها، وأن هذه الشبكة العلائقية المعقدة تستدعي المقارنة مع وضع أوروبا عام 1914. ولا يعتدّ كلارك بالرأي المنتقص من الأهمية التفسيرية أو السببية لحادثة اغتيال ولي عهد امبراطورية النمسا والمجر في سراييفو يوم 28 حزيران/يونيو 1914. ويقول إن هجمات 11 ايلول/سبتمبر 2001 مثال يثبت أن حادثا رمزيا مفردا يمكن أن يغير السياسة تغييرا نهائيا يبطل جميع الخيارات المعروفة.
إلا أن المتوازيات تبدو أوضح لدى المؤرخ ريتشارد إيفانز. حيث يرى أنه بمثلما أن الصين الصاعدة لا تفتأ تتحدى السطوة الأمريكية اليوم، فإن القوة العظمى التي كانت تسيطر على العالم عام 1914، متحكمة في البحار وباسطة سلطانها على شبكة مستعمرات عالمية – أي بريطانيا – قد تحداها آنذاك خصم تمكن من تجاوزها اقتصاديا بينما كان يبني قدراته العسكرية ليحقق طموحه إلى ‘مكانة تحت الشمس’ – وتلك كانت ألمانيا.
كما أن التنافس الإيديولوجي بين القوتين العظميين اليوم يشبه تنافس الأمس شبها لافتا: من ناحية، بريطانيا أمس وأمريكا اليوم بنظامهما السياسي الديمقراطي الذي يجعل الحكومات مسؤولة لدى البرلمان وقابلة للعزل بالانتخابات الشعبية، ومن ناحية أخرى ألمانيا أمس والصين اليوم بنظامهما الذي يجعل الحكومة معينة تعيينا وغير قابلة للزحزحة وغير مسؤولة لدى أحد. من ناحية، صحافة حرة وجمهور منفتح، ومن ناحية أخرى مجال عام مغلق موصد تتحكم فيه الرقابة وقيود الدولة البوليسية. هذا إضافة إلى تأثير النزعة القومية الوخيم، حيث ‘تشابه قعقعة السلاح الصيني اليوم بشأن الجزر المتنازع عليها حدة شعارات القيصر فيلهلم الثاني وعنف خطبه الزاعمة قبل 1914 بأن لألمانيا حقا في إفريقيا والشرق الأوسط’.
ويرى إيفانز أن صدام الإيديولوجيات والأديان قد كان جليا قبل 1914 بمثلما هو جلي اليوم، وأنه تركز في الحالتين على المناطق القابلة للانفجار: في البلقان أمس وفي الشرق الأوسط اليوم. كما أن دول البلقان قد كانت قبل مائة عام في نفس وضع دول الشرق الأوسط اليوم من حيث أن معظمها زبائن لدى القوى الكبرى. أما آخر المتوازيات، بل لعله أوّلها، بين 1914 و2014 فهو أن العولمة الشاملة المتسارعة اليوم قد كان لها نظير في عولمة التكنولوجيا والاستثمار والسياحة مطلع القرن العشرين.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول جليلة. تونس:

    مقارنة الأحداث جيدة وفي محلها تدل على حسن دراية كاتب المقال بتاريخ بلدان. العالم وتموقعها الجيو سياسي

إشترك في قائمتنا البريدية