كلما خرجت فتوى مثيرة او رأي من عالم سعودي ينشغل الاعلام العالمي والعربي بنشرها والتعليق عليها فيستحضر هذا الاعلام صورة الفقيه الرجعي المنغمس بفكره الذي لا يصمد امام التدقيق والتمحيص فيصبح ممثلا للاسلام ناطقا باسمه معبرا عن خفاياه ومواقفه تجاه قضايا عالقة من اهمها موضوع المرأة. فجاءت افكار عالم سعودي حول قضية قيادة المرأة للسيارة والحملة الحالية من اجل القيادة المقرر تنفيذها يوم 26 اكتوبر محملة بالاثارة والتسلية خاصة وان الفقيه اعترض على الموضوع من باب علمي هذه المرة حيث ربط القيادة بصحة الحوض النسوي والمبايض وبعد دقائق من نشر هذا الرأي تناقلت وسائل الاعلام الخبر المضحك المبكي ليتحول الى مقالات تنشرها وسائل الاعلام عالمية على صفحاتها تتناقلها الصحف العربية معلقة على تفاهتها.
ولا يمكن ان نعزي هذا الشغف بالفتوى الغريبة والاهتمام بها الا الى نظرة استشراقية منغمسة بالبحث عن هذا الآخر الغريب. من جهة الاعلام الغربي نجده اليوم يبحث عن هذا الآخر المختلف الخارج عن سياق الزمن ليقيس مدى اختلافه هو وتطوره وتجاوزه لمعضلة المرأة التي اصبحت مقياسا للشعوب ودرجة تقدمها. فالغرب اليوم يحتاج الى هذا الآخر المسلم وفتاويه ليعرف عن نفسه كبديل للظلامية والرجعية التي يعتقد انها لا تزال مستشرية في العالم الاسلامي وعلى رأسه السعودية.
ويتزامن هذا الاهتمام بالآخر المسلم مع تطور الحركة النسوية في الغرب ذاته حيث ذابت بعض القضايا وتشتتت الحركة ذاتها ففقدت بريقها السابق ولم تجد هذه اللحظة الا ان تنتقل بنفسها الى العولمة لتجد مكانا يستطيع ان يعيد اليها مكانتها السابقة. فخرجت الحركة النسوية المعولمة من محيطها المحلي لتصب اهتمامها على العوالم الاخرى واسست منظمات هي ايضا معولمة همها تخليص المرأة الاخرى المسلمة من قبضة الرجل المسلم خاصة فتاويه الغريبة. فالنسوية اليوم هي صناعة معولمة لها مؤسسات دولية وعالمية وميزانيات كبيرة همها يتجاوز حدود بلادها الى حدود ذلك الآخر. وتوفر لها فتاوى علماء السعودية مادة حية تعتبرها حجر عثرة في طريق المساواة بين المرأة والرجل ومثالا حيا لتخلف ذلك الآخر الغريب. فتنذر النسوية العالمية نفسها كمخلص للمرأة من براثن عدم المساواة والتحيز ضدها. فكما يخاف الفقيه السعودي على مبايض المرأة من سياقة السيارة نجد النسوية العالمية تركز ايضا على هذه المبايض وتريدها ان تبقى للمرأة وحدها وتحررها من قبضة الرجل. وليس مستغربا ان الفقيه والاعلام العالمي قد ركزا على هذه الاعضاء المهمة في جسد المرأة حيث يبقى الجسد مساحة المعركة الحاسمة وتأتي المبايض كأولوية بعد الحجاب والجدل الذي يسببه في الغرب حيث منذ السبعينات تحول اللباس الى مادة دسمة للابحاث العلمية والاراء الاعلامية بل اصبح جزءا من سياسة الحكومات لارتباطه بالهوية التي تظل مبهمة حتى تظهر برمز قوي يراه الجميع.
ولا تتوقف النظرة الاستشراقية عند حدود الاعلام العالمي بل هي ايضا من شغل الاعلام العربي الجديد حسب اتجاهاته الحالية. فيلتقط الفتاوى السعودية كمثال لكل ما هو غريب متخلف ورجعي غير مهتم بوزن العالم او القضية وموقعه من الاعراب في ساحات العلم والفتاوى. فالعالم العربي هو ايضا يريد من هذا الآخر السعودي ان يكون مرآة لا تعكس مدى تطوره ويريد ان يعمق الفجوة بين انجاز دوله ومجتمعاته وبين الآخر السعودي خوفا من ان ينزلق الى جدله فيعتقد العربي انه تجاوز فتاوى الحوض والمبايض وارتفع عنها ولو لم يمكن بالدرجة الكافية فهو البعيد القريب عكس العالم الغربي البعيد جدا. ومن هنا يكون الفقيه السعودي قد وفر مادة استشراقية دسمة اقليميا وعالميا. اما محليا على مستوى السعودية فالعالم هذا يكون قد خدم ثنائية السلطة السعودية على اكبر وجه حيث تعتمد هذه الثنائية على اسطورة الملك الاصلاحي والفقيه الرجعي. ومنذ تولي الملك عبد الله السلطة نجد ان الثنائية الاسطورية هذه قد ترسخت كصورة ثابتة تروجها وسائل الاعلام المحلية ويبدو فيها الملك الاصلاحي متقدما على مجتمعه ناهضا به رغم مواقف الفقيه الرجعي ومن يتبعه. فكل خطوة اصلاحية يتم الاعتراض عليها من موضوع تعليم النساء في فترة الستينيات الى تعيين المرأة كعضو في مجلس الشورى السعودي او السماح لها بالمشاركة في الانتخابات المحدودة على مستوى البلديات او الغرف التجارية. وتبدو السلطة فوق المجتمع كمصدر للمدنية والتقدم على خلفية رجعية المجتمع وتشبثه بالماضي وقيوده. تعتمد الثنائية الاسطورة على ركيزة مهمة اولها اسبقية القيادة الحكيمة وتقدمها على مجتمعها فهي ثورية في موضوع تمكين المرأة على خلفية المعارضة الشرسة التي يمثلها رأي الفقيه او فتوى لآخر. ثانيا: يمثل الفقيه رمزا للرجعية المستشرية في المجتمع والتي لولا حكمة القيادة لطغت افكاره وتحولت الى قرارات ملزمة للجميع عندها تبدو القيادة كصمام أمان يحمي المجتمع من الانزلاق الى الرجعية والتخلف الذي يجب ان يقيد ويرشد حتى لا تتدحرج السعودية باتجاه المزيد من التخلف والماضوية. من هنا الاهتمام المتزايد بآراء الفقهاء المثيرة حيث تتحول مثل هذه الاراء الى مقياس لدرجة الجهل المستشري عند بعض فئات المجتمع. ولا نحتاج هنا الى احصائيات تحدد مدى شعبية فتاوى الحوض والمبايض ومدى تقبل المجتمع لها حيث ان مثالا واحدا يكفي لان يصل المتابع الى استنتاج عميق مفاده ان مثل هذه الاراء تمثل شريحة كبيرة من المجتمع فتترسخ اكثر واكثر الثنائية السعودية الضرورية لتثبيت شرعية جديدة للقيادة تقوم على مبدأ اسبقيتها في مسيرة التقدم والتطور.
وان دل هذا على شيء فهو يدل على تحول طرأ على الشرعية السعودية التي انتقلت من اسطورة حماية الدين والالتزام بشرعه الى شرعية جديدة تقوم على وهم الاصلاح والنهضة الاجتماعية ومن اجل تدعيم هذا التحول تبقى رمزية الفتوى الغريبة مهمة وضرورية لتذكر الجمهور بمحورية القيادة والتي بدونها تنزلق البلاد الى الخلف فيتدهور التقدم وتتخلف النهضة.
لن تصمد هذه الثنائية المترسخة في الاعلام الرسمي حيث انها تتجاهل اطيافا متنوعة ومختلفة على الساحة السعودية ربما لا يجد رأيها او موقفها مساحة في الاعلام حيث هي غير مثيرة او مسلية ولا تعيد اثبات ثنائية القيادة المصلحة والفقيه الرجعي من هنا يبقى صوتها غير مسموع ورأيها غير مهم وان هي برزت على الساحة الاعلامية نجدها مضطرة ان تعيد انتاج الثنائية لتضمن حصانة ضد القمع او السجن فكم من ناشط حقوقي دخل السجن ليس بسبب سوى انه تخيل نهضة سياسية واجتماعية حقيقية او وقع بيانا يطالب بحقوق مدنية وسياسية للمرأة والرجل معا. هؤلاء هم من يحطمون الثنائية السعودية حيث انهم يهدمون دعائمها وزواياها المتناقضة والمتباعدة فلا تقنعهم اسطورة القيادة الاصلاحية من جهة والفقيه الرجعي من جهة اخرى لذلك نجدهم محاصرين ملاحقين من قبل السلطات والفقيه معا حيث كلاهما يعتبرهما خطرا على المنظومة السعودية بشكلها الحالي. فلا الملك الاصلاحي يقبل بالطرح الاصلاحي السياسي ولا الفقيه يرضى به كبديل لآرائه الموغلة في أزليتها من هنا يتعاون هؤلاء على تقليص مساحات عمل المهتم بالشأن العام من منطلق نهضة اصلاحية سياسية حقيقية تتجاوز قيادة السيارة وتبعياتها على جسد المرأة. ليس من حقنا ان نلجم الفقيه ونمنعه من الترويج لارائه الغريبة لكن من حقنا ان نذهب بتحليلنا الى ابعد من الثنائية السعودية لنستشرف مغزاها وتبعياتها على مسيرة الاصلاح السياسي والذي بدونه لن تتحقق آمال الكثيرين في الخروج من الطريق المسدود.
ويبقى الطريق مسدودا لسبب واحد هو عدم استجابة القيادة السعودية لاي مطلب اصلاحي سياسي والاستعاضة عن هذا الملف باصلاحات اجتماعية بسيطة يروج لها وكأنها قفزة نوعية تأتي رغم أنف الفقيه الرجعي ويتبنى هذه النظرة الاعلام العالمي الذي لا يزال يعتقد ان القيادة السعودية هي الحصن الاول والاخير في حماية ليس فقط المرأة في السعودية بل العالم من شطحات الفقيه الرجعي. ويربط هذا الاعلام بين التزمت الاجتماعي والموضوع الحساس المتعلق بالارهاب خاصة،
فكما القيادة هي حصن المرأة ضد تخلف الفقيه كذلك هي حصن العالم ضد مجتمع يفرز الغريب والخطير.
والى ان تتحطم الثنائية ستظل السعودية مصدر اثارة خاصة فتاوى علمائها التي تمد العالم بمادة استشراقية دسمة.
‘ كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
كل التقدير و الاعجاب.و يقال بعد هذا “أن النساء ناقصات عقلا”?
المقصود بـ”ناقصات عقل” من عقل – يعقل – عاقل وهو الربط اي حسن التصرف وعدم التأثر بالعاطفة وليس القدرات العقلية كما هو سائد عند الكثير و”ناقصات دين” تعني ان المرأة معفاة من بعض امور الدين اي النقص في متطلبات الدين مثل “الدورة الشهرية” فالمرأة معفاة من الصلاة ومن قضاءها.
شكرا على هذا التحليل العميق
كالعادة مقال مميز وتحليل رائع
يحضرني بيت شعر للمتنبي يقول …إن كان النساء كمن(قرأنا ) فما فضل الرجال على النساء .بوركت هذه السيده القديرة وبورك عقلها الراجح
شكرًا شكرًا شكرًا . على هذا التحليل الرائع !!!