تستخرج الكاتبة الأمريكية مادلين ميلر، الحاصلة على درجتي البكالوريوس والليسانس في الآداب الكلاسيكية، والعاملة في تدريس اللغتين اللاتينية واليونانية، من حقلي دراستها وتدريسها المواد الأولية. وتقوم بتشكيلها، بمعرفة الدارسة وخبرة المدرسة وحرفة الروائية، لتصنع منها روايتها الجديدة «سرسي» الصادرة عن دار الآداب، ترجمة هشام فهمي. وهي رواية تحيل إلى العالم المرجعي القديم بأساطيره وخرافاته وخوارقه وصراعاته. وتنتمي إلى مذهب الواقعية السحرية الذي تطغى فيه الغرائبية على ما عداها. وينخرط فيها الآلهة وأنصاف الآلهة والجبابرة والأبطال والحوريات والبشر والحيوانات في صراعات وجود، تتخذ تمظهرات شتى، تُستخدَم فيها قوى خارقة، تتمخض عن ضحايا كثيرة، وتؤول إلى نتائج تعكس موازين القوى المتصارعة.
الآلهة والبشر
ونكتشف، في نهاية المطاف، أن الآلهة لا يختلفون كثيرا عن البشر في صراعاتهم. هم مثلهم يحبون ويكرهون، يغارون ويحسدون، يحلمون ويطمحون، يكيدون ويتآمرون، يقتلون ويدمرون، يرفضون ويتمردون، ويدفعون الأثمان الغالية، بل إن صراعاتهم أشد فتكا، وأقوى درجة، وأبلغ أثَرا. ولعل الفارق الوحيد بين النوعين هو أن البشر يواجهون مأزق الموت بينما تواجه الآلهة مأزق الخلود، وهذا الأخير أشد من الأول. لذلك، لا غروَ أن تختم البطلة الراوية روايتها بالقول: «من قبلُ، حَسِبْتُ الآلهة نقيض الموت، لكنني أرى الآن أنهم أشد مواتا من أي شيء آخر، لأنهم لا يتبدلون، ولا يستطيعون الاحتفاظ بشيء في أيديهم». إنه مأزق الوجود، سواء للآلهة أو للبشر.
العنوان والمتن
العنوان في الرواية هو اسم البطلة الراوية. والمتن هو ما ترويه من أحداث، سواء من موقع الانخراط فيها والمشاركة في صنعها، أو من موقع الشهادة عليها والسماع بها. وفي الموقعين، نحن إزاء سلسلة من الأحداث الغرائبية، المتخيلة، المنسوبة للآلهة وأنصاف الآلهة. تحدث في مجموعة من الجزر اليونانية، الواقعية أو المتخيلة، مثل كريت، إيثاكا، أيايا، ثريناكا، وغيرها، ما يجعل المكان الروائي القائم على التعدد والانفصال، حاضنة مناسبة للأحداث الغرائبية القائمة على الغلبة والصراع. على أن الغرائبية ليست وقفا على الأحداث، بل تتعداها إلى الشخوص والأمكنة والأزمنة الروائية؛ فهيليوس لديه عربة مذهبة ينتقل بها في السماء، وسيلين تقود جيادها الفضية في سماء الليل، وبورياس يتحكم بحركة الرياح الأربع، وسكيلا وحش متعدد الرؤوس والسيقان، وابن باسيفاي كائن مشوه خطير، وبروميثيوس يتجدد كبده كل يوم. وقصر أوقيانوس أعجوبة في أعماق صخر الأرض. والزمن يقاس بآلاف السنين، على سبيل المثال لا الحصر.
الأصل والسلوك
في الحكاية، سرسي حورية تجمع بين الأصل الإلهي والسلوك البشري، فأبوها هيليوس إله الشمس، وجدها لأمها أوقيانوس إله البحر. وعلى الرغم من القدرات الخارقة التي يمنحها لها الأصل في التعاطي مع الآلهة وأنصاف الآلهة والبشر والحيوانات، فإنه لم يحل دون انزلاقها إلى ممارسة السلوك البشري، لذلك، تحب، وتكره، وتثور، وتنتقم، وتتعلم السحر، وتعيش الأمومة، وتخوض المعارك الطاحنة. ولأنها تنزلق إلى درك البشر الفانين، وتتمرد على أحكام الآلهة، تعاقبها هذه الأخيرة بنفيها إلى جزيرة أيايا، فتدفع ثمن انزلاقها وتمردها غاليا. تتمظهر ألوهيتها في: أصلها، مخاطبة الآلهة من أسرتها، ترويض الكائن الخطير الذي أنجبته اختها، تسخير الحيوانات المفترسة لخدمتها، تحويل البحارة إلى خنازير، مواجهة أبيها هيليوس إله الشمس، تصديها لإلهة الحرب أثينا، وامتناعها على الموت. والمفارق أن علاقات الآلهة الخالدين في ما بينهم مشوبة بالريبة والحذر والتوتر وانعدام الثقة وتغليب المصالح الخاصة، وبذلك لا يفترقون عن البشر الفانين.
مواقع مختلفة
تتمظهر بشرية سرسي في الرواية في السلوكيات التي تقع عليها أو تقوم بها من مواقع مختلفة؛ فسرسي الابنة يقع عليها احتقار الأم وسلطة الأب. وسرسي الأخت يتنمر عليها صغيرة أخواها برسيس وباسيفاي، وتمد يد المساعدة لاختها في ولادتها رغم كرهها لها، وتنجح في ترويض الكائن الخطير الذي أنجبته الاخت ووضعه في قفص. وسرسي ابنة الاخ تساعد عمها بروميثيوس، وتمده بالرحيق خلال تعذيبه من قبل الآلهة. وسرسي العمة تستقبل ابنة أخيها ميديا الهاربة من طغيان أبيها، وتُسدي لها النصح. وسرسي المراهقة تحب البحار جلاوكوس من طرف واحد، وتطلب من جدتها تيثيس توفير الصيد له، وتنجح في تحويله إلى إله بحري، غير أنه، بدلا من أن يبادلها الحب، يسقط في حبائل سكيلا رفيقة أخويها ويطلب الزواج منها، فتنتقم سرسي منها بتحويلها إلى وحش قاتل بستة رؤوس واثني عشر قدما. وسرسي الربة الحبيبة تقع في حب أودسيوس الفاني، وتنجب منه ابنها تليجونوس.
سرسي الأم
على أن الموقع الأهم الذي تشغله سرسي في الرواية هو موقع الأم، فيكون زمن الأمومة طويلا عليها، وتعبر عن ذلك بالقول: «ألف عامٍ عشت، لكنها لم تمر علي بطول طفولة تليجونوس». هي بشرية في أمومتها لذلك تفعل كل ما بوسعها لرعاية ابنها صغيرا وحمايته صبيا وشابا. وفي هذا السياق، يغشاها الخوف عليه، ويلازمها الشعور بفنائيته، باعتباره بشري الأب، وتظل مستنفرة طوال الوقت. تحكي له القصص لاستيعاب تدفق نهره الغزير. تحيطه بالتعاويذ والوصايا في رحلته إلى إيثاكا. تكلف الذئبة آركتروس مراقبته وحمايته. وتبلغ أمومتها الذروة حين تعرض نفسها لوجعٍ أبدي، بلمسها ذيل ترايجون سيد الأعماق والعودة به، لتحميَه من أثينا ربة الحرب، وتمنحه سنوات إضافية.
من خلال هذه المواقع المختلفة، تمارس سرسي السلوكيات البشرية على أنواعها؛ تحب وتكره، تغار وتحسد، تحب وتحلم، تثور وتتمرد، تعاقب وتنتقم، تندم وتحس بالذنب، تتعاطى السحر والكيمياء، تحارب وتهادن، وسواها مما يقوم به البشر الفانون. وهكذا، تقتصر إلوهيتها على الأصل، وتمتد بشريتها على مدى حياتها.
هذه السلوكيات تتبلور من خلال شبكة من العلاقات، تتفاعل فيها البطلة مع مجموعة من الشخوص، سواء من موقع الفعل فيها أو الانفعال بها. وتشكل المحور في هذه الشبكة المعقدة، فوجود الأطراف الأخرى رهنٌ بوجودها، بمعزل عن درجة العلاقة التي تربطها بهذا الطرف أو ذاك، وانطلاقا من هذه الشبكة، نقع على صُوَرٍ متعددة للموقع الاجتماعي الواحد، سواء انتمى للآلهة الخالدين، أو للبشر الفانين؛ فنرى الأب الخارق الذي ينفي ابنته عقابا لها (هيليوس) والأب الظالم الذي يطارد ابنته للبطش بها وبحبيبها (إييتيس) والأب الذي يقدم ابنته هدية لصديقه (أوقيانوس) ما يجعل صورة الأب التي تقدمها الرواية سلبية.
في المقابل، ترسم ميلر في روايتها صورة إيجابية للأم، تتمظهر في الأم القلقة على ابنها، الراعية له، المضحية في سبيله (سرسي) والأم التي ترحل مع ابنها عن ديارها خوفا عليه من ربة الحرب أثينا (بنلوبي). وتنسحب الإيجابية على صورة العمة في الرواية، فتلبي طلب ابنة أخيها في توفير الصيد لحبيبها البحار (سيلين) وتستقبل ابنة اخيها الهاربة من بطش الأب، وتسدي لها النصح (سرسي). بينما تغلب السلبية على صورة العم، فنراه يأكل أولاده خشية أن تتحقق نبوءة سمعها ويطيح به أحدهم (كرونوس) أو يعاني من النقصان والانحدار والخسارة (نيريوس وبروتيوس). وحده بروميثيوس يمثل الصورة الإيجابية للعم، فيهدي البشر النار المقدسة، ويدفع ثمن تمرده على أحكام الآلهة. وهذا التعدد في الصور الذي تغلب عليه السلبية ينسحب على المواقع الاجتماعية الأخرى في الرواية.
في «سرسي» تتخذ مادلين ميلر حكايتها من الميثولوجيا اليونانية القديمة، وتحشد لها الكثير من الأساطير التي يتفاعل فيها الآلهة والبشر والحيوانات في فضاء ملحمي، تؤثثه الخوارق والغرائب، وتتصادم فيه المسارات والمصائر. وتروي الحكاية بخطاب روائي، يقوم على وحدة الراوي الشريك، وخطية الحركة، وتعاقب الزمن، وتعدد المكان، وبذلك، تتكامل الحكاية والخطاب، ويصنعان حكائية الحكاية وروائية الخطاب، ويقدمان رواية رائعة تشهد للخيال والفن والجمال.
كاتب لبناني