مهما يقل المرء، يكاد يستحيل أن يبالغ في قول أشياء سيئة عن إسرائيل. طوال تاريخ معاصر غير قصير كان هذا الكيان الإسبارطي المسلح المبالغة مجسدة، الاستثناء والغطرسة والعنصرية والعدوانية، وإدعاء الأخلاقية (الديمقراطية الوحيدة في الشرق الوسط، الجيش الأكثر أخلاقية في العالم). وفي أساس كل ذلك مزيج متفجر من مظلومية ليست كسواها من المظلوميات، المظلومية المطلقة (الهولوكوست وتاريخ ألفي من الاضطهاد) ومن تفوق ليس كسواه كذلك، لا أقل من «شعب الله المختار» وبصيغة علمانية لا أقل من عبقرية يهودية. ثم لا يكاد يمكن المبالغة في هجاء داعمي إسرائيل من القوى الغربية التي ظهر خطابها متطرفاً، بل عدمياً، بخصوص فلسطين وحرب التعذيب الجارية في غزة. إن كان من خطاب يشبه خطاب داعش في العدمية، فهو ما يسمع المرء ويعاين في ألمانيا بخاصة. قبل حين أمكن لوزيرة الثقافة الألمانية، كلوديا روت، وهي من حزب الخضر التقدمي، أن تقول إنها إنما صفقت في حفل توزيع جوائز مهرجان برلينالي السينمائي للمخرج الإسرائيلي يوفال إبراهام، وضمنياً ليس لشريكه الفلسطيني باسل عدرا، علماً أن المخرجين الشابين نقديان على حد سواء حيال إسرائيل وحربها في غزة، وكونها دولة أبارتهايد، تميز قانونياً وسياسياً بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين، بما في ذلك في أراضي 1948. بأي شيء يا ترى يختلف ذلك عن رفض السلفيين المفعم بالكراهية الترحم على غير المسلمين (على آرون بوشنل مؤخراً مثلاً، أول أمريكي يضحي بنفسه احتجاجاً من أجل فلسطين)؟
لكن هجاء الأعداء والخصوم سهل. ماذا بشأننا؟ غزة لا تسحق اليوم بقوة إسرائيل وداعميها الغربيين، بل كذلك لأنه ليس في فلسطين، ولا في عالم العرب، من يمكن أن يكون سنداً لأهلها، إنسانياً وأخلاقياً وحقوقياً، وليس على مستوى القوة والسلاح، هذا حتى لو لم نقل شيئاً عن أن ضعفنا العسكري والتكنولوجي ذاته ليس قدراً مقدوراً، وإنما هو متصل بإفلاس التركيبة السياسية والأخلاقية والحقوقية لمجتمعاتنا المعاصرة. من جهة إسرائيل لا تخشى أي عواقب من الجهة العربية، هذا إن لم تتلق التشجيع سراً. ومن جهة أخرى لسنا الضعفاء العادلين الذين يمكن أن يغضبوا غضبة حق، ويناضلوا بوسائل القانون ومؤسساته المتاحة مثل جنوب أفريقيا. مَن اليوم يمكن أن يغضب غضبة حق في مجالنا على جرائم إسرائيل الحقيقية والكبيرة التي لا تحتاج إلى برهان؟ بشار الأسد، قاتل فوق نصف مليون من السوريين؟ السيسي، سجان المصريين وجلادهم؟ حسن نصر الله، قاتل السوريين واللبنانيين؟ معلمه الامبراطور خامنئي، الحريص فوق كل شيء على عدم تجاوز حد معين مع كبار امبراطوريي اليوم؟ مبخريهم من كتبة وشعراء وأكاديميين؟ أردوغان الذي تلون أكثر من ألوان الطيف طوال فوق عشرين عاماً كي يبقى في الحكم؟ تحتاج غضبة الحق إلى أن يكون المرء عادلاً، و«تحته نظيف» ليستطيع أن يقف ويعترض. ما لا تحتاج إلى حس بالحق هي غضبة صارت هوية، إدانة دائمة للعالم على كيده وتمييزه وازدواج معاييره، تعفينا من أن نكون عادلين وأخلاقيين. هذه الغضبة يجيدها أي ممانع كاذب وعديم إحساس، بل هي خطته الدائمة لمنح النفس شعوراً بأنه ذو ضمير وعلى حق. وهي بعد ذلك كاملة التكيف مع السوء السائد وجزء منه.
غزة لا تسحق اليوم بقوة إسرائيل وداعميها الغربيين، بل كذلك لأنه ليس في فلسطين، ولا في عالم العرب، من يمكن أن يكون سنداً لأهلها، إنسانياً وأخلاقياً وحقوقياً
ما يفتقر إليه عالمنا، المجال العربي بخاصة، ومنه فلسطين، ومنه بطبيعة الحال سوريا، هو انبعاث أخلاقي وروحي أو حس بالحاجة إليهما على مستوى النخب السياسية والدينية والعلمانية. بقادة سياسيين وزعماء منظمات وتشكيلات مسلحة يصعب أن تنسب إلى أي منهم مسالك عادلة تُذكر، أو فكرة واحدة مثيرة للتأمل، أو تجده شخصاً تتحاور معه فتتفق وتختلف، مشكلتنا ليست بأعدائنا. فكيف إن كانت أيديهم مخضبة بالدم، تعذيباً واغتيالاً ومجازر؟ كيف إن كان معظمهم لا وطنيين على مستويين: تابعين لقوة أجنبية، وطائفيين في آن معاً؟
أظهر عالم ما بعد الثورات العربية إفلاساً شاملاً في مجالنا. إفلاس على مستوى الدول أجهزة ومعان ونخب، تثير التساؤل الجدي عن حاجة الفلسطينيين إلى دولة؛ وإفلاس على مستوى الدين، سلطاته ومنظماته ومعانيه كذلك، بما في ذلك حماس التي لا يريد المرء نقدها في مثل هذه الظروف، لكن لدينا من التجربة المتواترة ما يكفي للقطيعة مع ما يقتضيه منطق التعبئة من سكوت على ما لا يسكت عنه من مسالك طرفنا، وإعطاء الأولوية للالتزام بالمبدأ والعدالة، وليس لحسابات سياسية وقتية مكسبها القريب غير مضمون وخسارتها الأبعد مدى مؤكدة. منطق التعبئة نفسه هو ما حدا بحماس لأن تتصالح مع قاتل نصف مليون سوري، وترتبط بإيران وأتباعها. بمثل هذه الاستعدادات والتكوين، حماس خسرت الموقع العادل، ومثلما هو ظاهر طوال خمسة شهور لم تكسب القوة الوقتية. تتكثف في الحركة كتركيب بين سلطة سياسية ومنظمة دينية حقيقة أن إفلاسنا دين ودولة. المنظمات الدينية السورية، ومنها ما صارت سلطات حكمت، كانت مثالاً للشر والجور، لا تستطيع أن ترفع رأسها حتى أمام بشار الأسد.
لكن غير هذين، أهل الدولة وأهل الدين، لا يظهر الأرخبيل اليساري العلماني الليبرالي، وكاتب هذه السطور منه، ما يمكن أن يكون وعداً عاماً، أرضية لهيمنة، دون أن يسجل بعد ذلك في الغالب تميزاً فيما يفترض أن يتميز فيه هذا الطيف: حقول الفلسفة والفكر والفن والأدب، ودون أن يتميز بخاصة بالاستقلالية عمن يتعين الاستقلال عنهم: أهل الدولة وأهل المال بخاصة، ولكن كذلك الاستقلال الفكري عن مرجعيات جاهزة، وبالعكس العمل على صنع فكر مرجعي.
مشكلتنا، مرة أخرى، بؤس روحي وأخلاقي، لا يمكن أن تكون لنا ذاتية في العالم دون الاجتهاد للخروج منه. هذا الاجتهاد لا يضمن لا القوة السياسية ولا النصر العسكري، لكنه يمكن أن يكون خطوة نحو تشكل ذات أخلاقية تاريخية، تستطيع أن تغضب حيال ما يغضب.
معظم ما تقدم يقوله بصور متنوعة ناقدون متنوعون بدورهم للبنى السياسية والثقافية والاجتماعية العربية، يساريون وليبراليون وعلمانيون. ما يكاد يغيب عموماً عن مداولاتنا هو أنه يتعين بالفعل «تغيير العالم» وإدراج تطلعاتنا للانبعاث الروحي والأخلاقي، في مسعى ثوري لتغيير العالم، لم يعد جدياً التفكير فيه كصيغة مموهة للعداء للغرب، ولا كشكل بلاغي للتعبير عن عاطفة عالمية غير متعينة. عالم يجري تعريفه بإسرائيل وألمانيا وأمريكا وأوروبا الغربية، شركاء الجينوسايد في غزة، هو جدير جداً بأن يتغير لأنه متطرف، يتراجع فيه ما هو عام وعالمي. إنه عالم القبيلة الأقوى.
ثم إنه لا شيء يحتم استبعاد مقاومات مسلحة، هنا وهناك، يقررها على الأرض من يعانون القهر والتمييز، ومن يتحملون العواقب كذلك. المهم هو انضباط مقاوماتنا المسلحة المحتملة بالقضية التحررية، تحرر وطني في الحالة الفلسطينية، واحترامها المبادئ التي نستنفرها نحن حين نكون تحت العدوان، ومنها تجنب استهداف المدنيين والخطابات الإبادية، الدينية والقومية، ومنها بالطبع تحمل المسؤولية عن أفعالنا وتقديم كشف حساب للمتأثرين بتلك الأفعال من مواطنينا.
ومن شأن خضوع مقاومتنا المسلحة لمبادئ عامة، أخلاقية وسياسية وقانونية، كأحد أوجه تجدد روحي وأخلاقي لا مناص منه، أن يكون تشريفاً لضحايانا وصوناً لكرامتهم. إننا نقتلهم مرة أخرى حين لا نكون عادلين عاقلين، حين تكون أنظمتنا ومنظماتنا علينا كأننا العدو، تقتل مثله الأحياء والموتى.
كاتب سوري