اليابان علمت العالم أن الفقر في الموارد الطبيعية ليس عائقا أمام التنمية، فاستوردت ما هي فقيرة فيه، وأضافت عليه من خلال التصنيع قيمة مضافة عظيمة، ثم أعادت تصدير المنتج النهائي محققة أرباحا كثيرة، فأصبحت إحدى أكبر الدول الغنية في العالم رغم فقرها في الموارد. الصين أيضا علمت العالم أن كثرة عدد السكان ليس بالضرورة نقمة، لأنه يمكن أن يكون نعمة، إذا تم تركيز التنمية على الاستثمار في البشر، فحولت قوتها البشرية إلى ثروة منتجة وصعدت من قاع الفقر إلى المركز الاقتصادي الثاني عالميا. الولايات المتحدة علمت العالم أن المهاجرين يمكن أن يكونوا محرك النمو وصناع الثروة، وليسوا دخلاء يجب إقامة الأسوار لمنع دولهم. وعلى العكس، فتحت أبوابها للمهاجرين من كل أنحاء العالم، فأصبحت أكبر قوة اقتصادية على وجه الأرض منذ القرن التاسع عشر حتى الآن. في هذه النماذج الثلاثة اليابان وكيف تغلبت على فقرها في الموارد، والصين وكيف حولت ضخامة عدد سكانها إلى ثروة، والولايات المتحدة وكيف فتحت أبوابها للمهاجرين من أجل استثمار مواردها البكر، كانت التجارة مع العالم هي الجسر الذي عبر عليه كل نموذج منها من التخلف والفقر إلى التصنيع والثروة. ولذلك فإننا إذا استطعنا قراءة صورة البصمة التجارية لكل دولة، فسوف نستطيع بدرجة مقابلة قراءة المستقبل الاقتصادي لها، في الأجل المتوسط على الأقل.
الصين
على الرغم من الظروف غير المواتية عالميا ومحليا، بسبب الإجراءات الاحترازية لوقف انتشار فيروس كورونا، وتداعيات الحرب الأوكرانية، وضعف الطلب في الأسواق الخارجية، حققت التجارة الخارجية للصين رقما قياسيا في عام 2022 لتصل إلى 40 تريليون يوان أو ما يعادل 5.96 تريليون دولار أمريكي للمرة الأولى في التاريخ. وأظهرت الأرقام الصادرة عن إدارة الجمارك الصينية قوة الصادرات، وقدرة الأنشطة الاقتصادية المختلفة على تحمل الظروف غير المواتية ومقاومة الضغوط الخارجية، والمحافظة على موقع مهم في سلاسل الإمدادات العالمية. وعلى ضوء نتائج العلاقات التجارية مع العالم عام 2022 فإن توقعات العام الحالي تبدو إيجابية مع استمرار قدرة قطاعات الاقتصاد على النمو بمعدلات مستقرة، وذلك على الرغم من أن الصين تتوقع تراجع الطلب الخارجي، نتيجة لتراجع معدل النمو العالمي. وكان صندوق النقد الدولي قد خفض تقديره لمعدل النمو العالمي المتوقع في العام الحالي إلى 2.9 في المئة مقابل 3.4 في المئة في العام الماضي. ونظرا لأن أسواق الدول الصناعية وعلى رأسها الولايات المتحدة تمثل أهم أسواق صادرات الصين، فإن هذه الصادرات ستواجه ضغوطا كبيرة بسبب تراجع معدل النمو المتوقع للعام الحالي إلى أقل من نصف ما كان عليه في العام الماضي، حيث سينخفض معدل النمو في الولايات المتحدة إلى 1.2 في المئة مقابل 2.7 في المئة في العام الماضي.
نمو قوي للصادرات
حققت تجارة الصين السلعية مع العالم في العام الماضي (الصادرات والواردات) نموا بنسبة 7.7 في المئة، أي ما يزيد عن ضعف معدل النمو الاقتصادي للعالم الذي بلغ 3.4 في المئة. وهو ما يبين قوة معامل الارتباط بين النمو في الصين والعالم. وبلغت قيمة التجارة السلعية المتبادلة حوالي 42.1 تريليون يوان أي ما يعادل 6.26 تريليون دولار أمريكي. وحققت الصادرات نموا بمعدل 10.5 في المئة لتصل إلى 24 تريليون يوان، في حين حققت الواردات معدل نمو متواضع يقل عن نصف معدل نمو الصادرات بلغ 4.3 في المئة فقط. وطبقا لبيانات الجمارك الصينية يكون الفائض التجاري للصين قد وصل إلى حوالي 5.9 تريليون يوان.
من أهم ملامح صورة البصمة التجارية للصين غلبة صادرات السلع التكنولوجية المتقدمة، التي حققت أعلى معدلات النمو بين الصادرات بشكل عام مثل خلايا الطاقة الشمسية بنسبة زيادة (67.8 في المئة) وبطاريات الليثيوم (86.7 في المئة) والسيارات التقليدية والكهربائية (82.2 في المئة) عام 2022. ومع أن صادرات السلع كثيفة العمل حققت معدلات نمو أقل، فإن بعضها سجل معدلات قوية جدا بمقاييس السوق العالمي مثل الحقائب (32.6 في المئة) والأحذية (24.4 في المئة) ولعب الأطفال (9.1 في المئة).
وفي قطاع الواردات كانت أهم السلع التي استوردتها الصين، البترول والغاز والسلع الزراعية. على سبيل المثال بلغت قيمة الواردات من النفط الخام والغاز والفحم حوالي 3.19 يوان تعادل ما يقرب من 17.6 في المئة من القيمة الكلية للواردات. وبلغت قيمة الواردات من السلع الزراعية 1.57 تريليون يوان بنسبة زيادة تساوي 10.8 في المئة عن العام الماضي، حسب بيانات الجمارك. وتعتبر السوق الأمريكية أهم أسواق استيراد المواد الزراعية.
صادرات السيارات
نجحت الصين العام الماضي في إزاحة ألمانيا من مكانها لتصبح ثاني أكبر مصدر للسيارات في العالم بعد اليابان، محققة رقم صادرات بلغ 3.1 مليون سيارة بزيادة نسبتها 54.4 في المئة. وتصدر الصين أكثر من 11 سيارة من بين كل 100 سيارة تنتجها. وفي الوقت نفسه فإن كمية صادرات السيارات الكهربائية زادت بنسبة 120 في المئة ووصلت كمية الصادرات إلى 679 ألف سيارة. وإذا استمر هذا التقدم السريع في صادرات الصين من السيارات فإنها ستزيح اليابان وتحتل قمة الدول المصدرة للسيارات خلال الأشهر المقبلة. وكانت صادرات السيارات اليابانية قد حققت رقما بلغ 3.2 مليون سيارة مقابل 3.8 مليون سيارة عام 2022. وتتميز الصين بسيطرتها تقريبا على السوق العالمية للسيارات الكهربائية. ومن المتوقع أن تكون السيارات الكهربائية هي محرك النمو الرئيسي لصادرات السيارات حتى عام 2030، ويمكن أن تصل إلى 2.5 مليون سيارة أي ما يقرب من الرقم المتوقع لصادرات السيارات الذي يبلغ 5.5 مليون سيارة.
العجز التجاري الأمريكي
بلغت قيمة العجز التجاري في العام الماضي ما يقرب من تريليون دولار (948.1 مليار دولار) يعادل ما يوازي 3.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بحوالي 845 مليار دولار في العام السابق. ويمثل هذا العجز الفرق بين قيمة الصادرات التي بلغت 3 تريليون دولار والواردات التي بلغت 4 تريليون دولار. ويمثل ارتفاع أسعار البترول أحد المحركات الرئيسية لعجز الميزان التجاري، ذلك أن تجارة الولايات المتحدة مع كندا، أكبر مورد للنفط إلى السوق الأمريكية، أسفرت عن مضاعفة رقم العجز بما يقرب من ثلاث مرات إلى 81.6 مليار دولار مقابل 31.6 مليار في العام السابق، وذلك على الرغم من أن السوق الكندية وحدها تستوعب ما يقرب من 18 في المئة من قيمة الصادرات السلعية الأمريكية إلى العالم. في حين أن المبادلات التجارية بين الولايات المتحدة والصين أسفرت عن زيادة قيمة العجز إلى 383 مليار دولار تقريبا بزيادة 29.4 مليار دولار عن عام 2021. ويتصدر النفط الخام ومنتجاته، والغاز المسال، والسيارات، والإلكترونيات إلى جانب الحبوب الغذائية واللحوم ومنتجاتها قائمة الصادرات الأمريكية إلى العالم.
حققت الصادرات الزراعية الأمريكية إلى الصين رقما قياسيا في السنة المالية الأخيرة 2022 للعام الثاني على التوالي مسجلة 36.4 مليار دولار. ومن المتوقع أن تظل الصين أكبر سوق للصادرات الأمريكية هذا العام 2023 للمرة الثالثة على التوالي حسب تقدير وزارة الزراعة الأمريكية، رغم ان الوزارة تتوقع انخفاض قيمة الصادرات في العام الحالي إلى نحو 34 مليار دولار.
وعلى الرغم من قوة النمو الاقتصادي في الربع الأخير من العام الماضي فإن قطاع التجارة الخارجية سجل مؤشرات سلبية بشكل عام في الشهر الأخير من العام، إذ انخفضت الصادرات بنسبة 0.9 في المئة، مقابل ارتفاع الواردات بنسبة 1.3 في المئة، وهو ما أسفر عن تسجيل عجز تجاري شهري بقيمة 67.4 مليار دولار بنسبة زيادة 10.5 في المئة. وحقق العجز التجاري رقما قياسيا للعام بأكمله. ومن المتوقع أن تسجل مؤشرات الأداء لشهر كانون الثاني/يناير من العام الحالي زيادة في قيمة فجوة التجارة الأمريكية. وفي هذا السياق يتوقع صندوق النقد الدولي أن يهبط معدل النمو الاقتصادي للولايات المتحدة في عام 2023 إلى 1.4 في المئة مقابل 2 في المئة في العام الماضي.
هذا النمط من العلاقات التجارية بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم يظهر قدرا كبيرا من الترابط بينهما، وأن تراجع النمو في أي منهما أو فك العلاقات بينهما يمكن أن يؤدي إلى أضرار كبيرة على صعيد الاقتصادي ككل.
ماذا تخبرنا خصائص المبادلات التجارية بين الصين والولايات المتحدة؟………………..دروس وعبر لمن يريد