يعتبر كتاب «مهنة الكتابة: ما تمنيت معرفته في بداياتي»، الذي يحتوي على شهادات لروائيين غربيين مهمين، والصادر حديثا عن دار تكوين الكويتية، باختيار وترجمة راضي النماصي، من الكتب التي ينبغي قراءتها لمن أراد أن يطرق سكة الكتابة، وأيضا للذي انغمس فيها، ولا يستطيع الخروج برغم كل مطبات ووعورة هذه المهنة التي تأخذ من الإنسان الكثير، ولا تعطيه سوى القليل، خاصة في عالمنا العربي، حيث الكاتب مجرد ممول إبداعي لدور النشر من دون أي عائد يذكر.
الكتاب يحتوي في الحقيقة على شهادات لكتاب عديدين منهم من نعرفه مثل التركية إليف شفق، والهندي حنيف قريشي، والياباني هاروكي موراكامي، ومنهم من يعرفه قليلون منا بسبب عدم وجود ضجة حوله، أو عدم وصول إنتاج وفير يخصه للغة العربية، مثل الإنجليزي غراهام سويفت.
ومعروف أن معظم القراء العرب حتى لو كانوا يجيدون لغات أخرى، يفضلون القراءة باللغة العربية، وطبعا كل قارئ يستمتع بلغته الأم، لكن أحيانا نود قراءة كتاب ما، سمعنا عنه كثيرا ولا نجده بالعربية، فنضطر إلى قراءته بلغته. وقد قرأت في هذا السياق كتبا عدة لم تصدر لها ترجمات بعد، أو صدرت بعد أن أكون قرأتها.
شهادة كلاسيكية
إليف شفق كانت شهادتها كلاسيكية، أي مطابقة لمعظم شهادات الكتاب وحتى العرب منهم، مثل القراءة المبكرة، ثم الكتابة أيضا في سن مبكرة، ومطاردة الكتب حيثما وجدت، ومحاولات مبكرة للنشر، حيث نشرت قصة قصيرة في مجلة، ثم لتنشر أول رواية لها وهي في الثالثة والعشرين، وتنطلق بعد ذلك، إنها تقرأ باستمرار، وتكتب باستمرار، وتتعلم كثيرا كلما قرأت وكتبت.
نعم هو حال كل الكتاب المجيدين، اكتساب المعرفة أولا، ثم إعادة إنتاج المعرفة مع خيال أدبي رفيع، وهكذا يعثر المتلقي على وجبة شهية، فقطعا يلتهمها، تقول إليف، إنها لم تكن أبدا تطمح لأن تصبح كاتبة بشكل جدي، لكن الذي يقرأ شهادتها هذه وحوارات كثيرة لها، ويقرأ ما أنتجته يدرك تماما أنها سعت لتصبح كاتبة كبيرة بالفعل، ومنذ وقت مبكر.
فالذي لا يود أن يصبح معروفا وجيدا في حرفته، ينتج بتكاسل وخجل، وقد ينزوي من رواية أو روايتين، بحيث لن يعثر عليه مؤرخو الأدب بسهولة، وقد لا يجده كتاب الأنطلوجيات أبدا.
وعندي أمثلة عن زملاء بدأوا معنا مشوار الكتابة، وكانوا موهوبين، واكتسبوا شيئا من الثقافة والمعرفة، لكنهم لم يستمروا بسبب اقتناعهم بأنهم لن يصبحوا عظماء يوما، أو بسبب عدم الجدية التي ذكرتها إليف، ولم تكن من خصائصها هي ككاتبة.
شخصيا تعرفت على أدب إليف منذ سنوات، وقرأت أولا كما قرأ معظم الناس «قواعد العشق الأربعون»، إنها قصة متفردة عن الصوفيين، بالرغم من اختلاف العديد معها، لكنها عمل أدبي مكتوب بحرفية وجهد. بعدها قرأت أعمالا أخرى، مثل «بنات حواء الثلاث»، كلها ملهمة وذات نكهة.
ومثل معظم الكتاب الأتراك، هناك اهتمام من إليف بالتفاصيل الصغيرة، والصغيرة جدا، هي تكتب أشياء لا تخطر ببال المشاهد العادي، الذي يمر بها من دون ملاحظة، وأقول دائما أنني أحب التفاصيل في الكتابة الأدبية، بشرط أن لا تكون زائدة كثيرا ولا ترهق ذهني بمحاولة تخزينها واستعادتها.
هناك شهادة لحنيف قريشي، وهذا كاتب مهم آخر، في سياق الكتابة الغربية، ووصلت أعمال عدة له إلى اللغة العربية، وما زلت أذكر بكثير من الانتشاء روايته الجميلة «بوذا الضواحي»، ورواية «هدية غبريال» التي تتحدث عن الأبوة والبنوة، وروايته الفنتازية التي يستعير فيها كبار السن أجسادا وملامح شبابية، يمضون بها، إنه خيال ثري ومبهج.
حنيف لم يتحدث كثيرا في شهادته، هو حديث فلسفي قصير. أهمه أيضا ما ذكره بأنه لم يكن جديا في اتخاذ الكتابة مهنة، وإنها مجرد مصادفات صيرته بهذا الحجم، لقد ذكر شيئا عن الأقليات العرقية، وانتماؤه إلى أقلية غالبا لن تمنحه أفضلية في شيء، وحقيقة هذا المنطق ليس صحيحا في الغرب، وأي شخص من أي مكان، يعيش هناك، يمكنه بشيء من الاجتهاد المشروع، أن يفعل أي شيء، وأن يصبح أي شيء.
مجلدات غاصة بالحكايات
هاروكي موراكامي، الذي يعتبره الكثيرون في بلاد العرب من الأساطير، ذلك الذي يكتب مجلدات غاصة بالحكايات، ويمكن أن تصدر روايته في أجزاء عدة كلها بحجم من الصعب قراءته، يكتب شهادة طويلة ومفصلة. إنه لا يضيف شيئا إلى ما نعرفه عن طقوسه، وممارسته للركض، واحتفائه بالموسيقى والرقص، وفي الشهادة يذكر نصائح كلنا يعرفها، مثل القراءة ثم القراءة، ثم القراءة قبل إنتاج أي نص روائي. إنها النصيحة الكلاسيكية منذ الأزل، ونذكر الشاعر الذي قال لمبتدئ، احفظ ألف بيت من الشعر، ثم انس ما حفظت قبل أن تكتب.
لا أحد يختلف مع موراكامي، وشخصيا في متابعتي للكتابة الجديدة بقدر ما أستطيع، أعرف من قرأ وكتب ومن لم يقرأ وكتب، هناك كتاب جدد لا يحبون هذه النصيحة ويعتبرون الكتابة مطرا يهطل عليهم من دون سابق معرفة بمطر الكتابة. وللأسف هنا من يصدق ذلك، ومن يصدق أيضا أن كل من كتب قبل هؤلاء الجدد لم يكتب شيئا.
توجد في كتاب راضي شهادات لكتاب ربما لا نعرفهم جيدا كما قلت، لكن قطعا نعرف زادي سميث، وهي كاتبة جيدة جدا، كتابتها فلسفية عميقة، وشخصياتها غاية في الغموض، ولها في الكتاب شهادة عن كيفية الحديث عن عالمك.
نحتفي دائما بالكتب التي تمتعنا أو تعلمنا شيئا أو تقربنا من عوالم نعرف أصحابها عبر إبداعهم ونود لو اقتربنا منه.
*كاتب من السودان