كيف يكون هذا سؤلا عاديا قد يسأله كل كاتب لنفسه. لا اعتقد أنه سؤال مبكر، فالكاتب في بدايته يندفع فرحا باكتشافه عالما جديدا لنفسه، يستقل به عن بقية البشر في حياتهم اليومية المليئة بالأعمال التي قد يشتركون فيها. ورغم أن الكتّاب متعددون، إلا أن الموهوبين يشعر كل منهم بأنه وحده له عالمه. في كل الأحوال لا تستطيع في مثل هذه القضايا الإنسانية أن تضع إجابة حاسمة للأمر. قد تكون الإجابة هي الانتحار إذا فكرت في عدد المنتحرين من الكتاب والفنانين من مختلف الأعمار عبر التاريخ. ربما نحن في عالمنا العربي لا يكون عدد المنتحرين كبيرا، باعتبار أن الكاتب مهما بدا بعيدا عن الله، فهو أقرب إلى الدين والإيمان، حتى لو لم يمارس شعائره.
لقد عرفت عددا قليلا من المنتحرين العرب، لكن المؤكد هناك غيرهم مرَّ انتحارهم كما مرّت حياتهم ولم يشعر بها أحد. وقد لا يكون الانتحار مباشرا، بل يترك الكاتب نفسه لشرب الخمور إلى درجة تدمر الكبد في عمر صغير، كما جرى مع نجيب سرور مثلا. وقد تكون الإجابة شيئا آخر بسيطا، وهو العمل في وظيفة أو مهنة تدر على الكاتب أكثر مما تدر الكتابة نفسها، وفي هذا استراحة مبكرة من الهموم تحدث عادة قبل الكتابة.
حين سألني الصديق ناصر حجازي مدير تحرير مجلة «الإذاعة والتلفزيون» هذا السؤال ونحن في المقهى القريب من البيت، الذي حين أحتاج الذهاب إليه، يأتي ويصحبني، أجبته بهاتين الإجابتين. لم يكن حوارا صحافيا لكننا كنا نتحدث عما يحدث في العالم فوصلنا دون أن ندري إلى هذا السؤال. قال لي لكن يحيى حقي توقف عن الكتابة مبكرا بإرادته، أجبته أن يحيى حقي كان من جيل ثورة 1919 وهو جيل اتسم بالعقل كما اتسم بالروح. طه حسين مثلا حين كتب رواياته كان يطمح لأن يدشن بقوة هذا الفن، لكنه كان مشغولا بالفكر أكثر. وحين فعلها عباس محمود العقاد كتب رواية واحدة صغيرة هي «سارة» ويبدو أنها لم تعجبه فانصرف إلى دراساته ومقالاته. توفيق الحكيم كتب الرواية لكنه وجد نفسه في المسرح أكثر فلم يتوقف، لكن حين تشاهد حديثا تلفزيونيا له في آخر أيامه وهو مريض تجده يقول «إيه لازمتها الحياة وإيه لازمة اللي عملناه» كأنما يستدعي الموت بديلا عن الانتحار. طبعا لم يكن السبب هو ما قال، لكنه المرض أكثر من الفكر.
ربما لو لم يكن مريضا لاستمر يكتب. نجيب محفوظ أدرك مبكرا إلى أين تأخذه موهبته، فاستخدم العقل في استبعاد ما حوله مما يحطم النفس، وكتب حتى آخر حياته. جعل الكتابة ملاذا وبديلا بالفعل لا بالقول. هذا العقل الذي تمتع به جيل ثورة 1919 يكمن في فكرة الليبرالية التي اتسعت مع الثورة. فالليبرالية التي تعني الحرية للجميع مارسوها مع أنفسهم بحرية. هكذا مارسها يحيى حقي وتوقف عن الكتابة. مهما كانت الأسباب التي لم يعلنها أو أعلن أبسطها، وهو التقدم في العمر. أعطى لنفسه الحرية في الاختيار، ربما ذلك لا يجعله يتألم من كون الشيخوخة قاتلة لنشاط الروح.
نجيب محفوظ أدرك مبكرا إلى أين تأخذه موهبته، فاستخدم العقل في استبعاد ما حوله مما يحطم النفس، وكتب حتى آخر حياته. جعل الكتابة ملاذا وبديلا بالفعل لا بالقول. هذا العقل الذي تمتع به جيل ثورة 1919 يكمن في فكرة الليبرالية التي اتسعت مع الثورة.
غريب أنني في الليلة التي قابلت فيها صديقي ناصر حجازي عدت إلى البيت فوجدت الكاتبة السكندرية الشابة هبة خميس قد كتبت على صفحتها على تويتر: «نفسي في الكام سنة الجايين أبدأ بداية جديدة بوظيفة تخليني أتخلى عن الكتابة للأبد. لأن الحقيقة مفيش شيء بائس أكتر من كوننا عايشين في مصر إلا كوننا كتاب في مصر». قلّبت عليّ هبة المواجع، لكني كمحب لكتابتها ومقالاتها، ولكوني مبكرا منذ سنوات أشرت إلى جمال قصصها القصيرة، دون أن أجاملها، ثم أشرت إلى جمال مقالاتها، وقد نشرت رواية جميلة هي «مساكن الأمريكان» سألت نفسي ماذا تفعل هبة. أعرف قدراتها العقلية، فقد لخصت ما أشعر به أنا وغيري، لكني رفقا بعمرها رددت عليها قائلا القول المعتاد:
«آه والله يا هبة.. بس انتِ لسة صغيرة، أمال أنا أعمل إيه وأنا بابص حوالي ألاقي الخراب بيزيد. على أيّ حال الكتابة نجاة»
فردت عليّ قائلة:
«هي نجاة لكن للأسف الوضع في الكتابة نفسها بقى أسوأ من السبوبة للشلل للبلوجرز. الواحد مش لاقيله مكان يا أستاذنا من كتر ما الوضع صعب».
فرددت عليها بإجابة عمري على مثل هذا السؤال:
«اعملي زيي طول عمري.. متعتي هي الكتابة نفسها.. ما بعدها ليس ملكي ولا أتعب فيه. وهناك دائما قارئ بعيد مهما تعثرت، ومهما كانت التفاهة سائدة الآن أقول هكذا العصر ولن اندرج إليه.. راحتي في مزاجي ومتعتي في كتابتي».
توقفنا عن الحديث، لكن الأمر قلّب عليّ الأسباب التي يمكن أن ترهق كاتبا شابا مجددا في الكتابة مثل هبة خميس، حين يري الطوابير والزحام في معرض الكتاب أمام كاتب بلوجر أو يوتيوبر كل ما لديه أحاديث مضحكة أو ساخرة أو رواية لا قيمة لها. طبعا هناك من هم غير ذلك، لكن هكذا زادت شهوة الاستمتاع بما لا يبقى في الروح أو العقل ولا لوم على أحد، فهذا العالم مؤكد يدفع إلى التفاهة التي قد يرى البعض أن الاستمتاع بها جريمة تعكس تدني الثقافة، بينما أرى أنه أيضا طريق إلى الهروب والراحة المجانية، أيّ التي لا تكلف المستمتع بها التفكير، ولا بد أنه ينساها بعد أن يشاهدها وينخرط في عمله أو في النوم، لكن تظل الكتابة الحقيقية لا مردود لها مثل الكتابة الساذجة، وعلى الكاتب أن يريح نفسه بأن ما يكتبه لا يذهب في الفراغ، فلا بد من قارئ حتى لو لم يره يقرأ وتتغير حياته. ومهما كان ما حوله يسبب الصدمة، فالراحة بالمتعة أثناء الكتابة. أقول ذلك وأعرف الحقيقة أنه ليس كل كاتب يستطيع الحياة بلا احتياج، ولا حتى أنا الذي جعلت منذ شبابي كتابة المقالات معينا لي على تكاليف الحياة. الحياة الآن لا تكفيها كتابة مبدعة شعرا أو رواية أو غيرها ولا مقالات.
لكن السؤال استيقظ في اليوم التالي الذي أكتب فيه هذا المقال. حين عرفت أنه في معرض الكتاب تم إخفاء كتابين للصحافي أنور الهواري من رفوف دار «روافد». الكتابان هما «ترويض الاستبداد» الذي كتبت عنه هنا في التاسع من ديسمبر/كانون الأول الماضي، وكتاب جديد هو «الديكتاتورية الجديدة». ليس هناك تصريح واضح بمصادرة الكتابين لكن إخفاءهما من دار النشر في المعرض لا يتم إلا بنصيحة أو أمر. اتسع السؤال ليأتي السؤال الأكبر وهو لماذا على طول التاريخ يخشى الحكام الكتابة والكتاب؟ هل لأنهم يمشون بين الحراس بينما الكتّاب يمشون أحرارا بلا حراسة؟ هل حقا يصدقون أن رواية أو كتابا فكريا يمكن أن يقيم الدنيا ضدهم إذا كان ما يفعلونه يرضي شعوبهم ويتقدم بها؟ كيف حقا لا يفكرون أنهم سبب غضب الناس من قراراتهم التي لا يستفيد منها غير قلة قليلة تحيط بهم. قراراتهم في الاقتصاد والتعليم والصحة وغيره. على طول التاريخ بنوا المساجد والقصور والكنائس التي أصحبت مزارات سياحية بيننا، معتمدين في ذلك على الفنانين، بينما كان ضحاياهم بالمئات من الفنانين والكتاب. هنا يمكن أن يقفز السؤال فشعور المبدع بالتفرد ينتهي إلى أن التفرد مسجل فقط باسم الحكام. هنا يمكن لو تغلب السؤال على الكاتب أن يترك كل شيء ليعيش حياة عادية يعمل فيها مثل غيره أعمالا زائلة، لكن لا أظن أن أصحاب المواهب الكبيرة يفعلون ذلك، حتى لو كانت النتيجة السجن أو القتل من قبل الحكام، ويبقى الانتحار خيارا لا يقدر عليه إلا القليلون. وسيظل السؤال.
روائي مصري
اهم نقطة في ما قُلتَه يا استاذ هي انه ربما يوجد احد مافي مكان ما يَقرأ ما يُكتب. نعم البشر كثيرون وليسوا سَواء. ثُم هَب ان الكُتَّاب أقلعواعن الكتابة، كيف سيكون عالمنا وسط هذا الهَمٍ من التكنولوجيا و السطحية و الفراغ الفكري و الروحي و المعرفي…و لو اقلع الكاتب عن فعل الكتابة فَليتوقف الرسام و المصور والسينمائي و الممثل و كل المبدعين عن إبداعاتهم و سيرتاح الطُغاة و السطحيون آنذاك…
معركة الرقي الفكري لابد من قادة في الصفوف الأولى و هم هنا الكُتَّاب دون انتظار اعتراف ولا اعتبار بل الكتابة لأجل الكتابة و معاقرة القلم و الورقة لا غير.
في نفس العدد من هذه الجريدة تتحدث الأستاذة غادة السمان عن الأستاذة مي زيادة…تُرى لو توقفت زيادة عن الكتابة ذات يوم فهل كنا اليوم سنستمتع بإبداعاتها…؟
شكرًا أخي إبراهيم عبد المجيد. كل فكرة في هذا المقال تحرض ذهني على كثير من الأفكار. سأحاول الإختصار قدر الإمكان. الاشك أن الحرية هي التي تفتح عقول الناس وتسمح بتفاعلهم وهذا هو الذي يحرك النهضة الفكرية والثقافية والإجتماعية كما هو واضح من ثورة ١٩١٩ وغيرها الكثير. كلامك عن الكتابة “ومهما كان ما حوله يسبب الصدمة، فالراحة بالمتعة أثناء الكتابة.” جميل جدًا, ورغم أني لاأملك القدرة على الكتابة. لكن هذا ماأفعله بالبحث العلمي, فرغم أني لاأحصل من المال إلا على القليل لكن متعتي هي في الإستمرار في هذا العمل. ولاأعرف ربما هو الشعور بالتفرد أو كما يقول البعض تحقيق الذات. على جميع الأحوال رغم هذ الشعور بالتفرد التفاعل مع الأخرين وبين الكاتب والمثقف والمجتمع هي الدماء التي تروي العروق ومهم جدًا لتطور المجتمع ويمنحنا الحياة ومتعة الحياة.
الحزء الأخير من المقال يضع النقاط على الحروف والأصبع على الجرح. الإستبداد يعتقد أن يعمل بذكاء لايدرك أن هذا غباء. الإستبداد كان ومازال يسعى دومًا لحجب مايعلمه المفكر والمثقف والمبدع والكاتب والعالم عن العامة ظنًا منه أنه بهذا سيمنع النور عن عقولهم ويسمح له بتقوية سلطانه. هل خطر على الوطن أن بعلم الناس جديد الديكتاتورية بعد أن أكنوا بقديمها. هنا بالذات هي مأساننا في العصر الحاضر. العالم المتقدم حسم الموضوع بالحرية والسماح بالتواصل مع المجتمع بحرية وبشكل منضبط طبعًا. مازال طبعًا يوجد استبداد متخفي من نوع أخر كاللوبيات بمختلف أشكالها والسلطة التي تتحكم بالإعلام وحجب الحقيقة بشكل منظم, لكن هناك فارق كبير مع عالم الإستبداد الذي يطيح بوجودنا الحضاري.
لقد صادروا كل شيء يا إبراهيم! صادروا الأحلام والآمال والمعتقدات والأفكار والكتب، وسمحوا لمن يقرعون الطبول